«تلويحة» الرئيس مبارك وابتسامته

ت + ت - الحجم الطبيعي

سؤال شاذ راح "يزن" في رأسي كذبابة ثقيلة الظل تطن في حجرة مغلقة: ماذا يفعل المرء لو كان خلف القضبان يُحاكم للمرة الثانية في قضية قتل المتظاهرين مثل الرئيس السابق حسني مبارك؟

كانت الملايين تتابع - مثلي - إعادة محاكمته على شاشات التليفزيون، وقد أخذهم شكل الرئيس السابق من أول لمعان شعره إلى تلويحه بيده لمشاهديه وابتسامته لهم، وما كاد القاضي يعلن انسحابه من نظر القضية لاستشعاره الحرج، حتى انشطرت قنبلة نووية من التساؤلات في مجلس الشورى والفضائيات والشوارع والجلسات الخاصة، عن سر تلويح الرئيس السابق وابتسامته. بل كانت هي طبق الحلو على موائد الأسر المصرية في بيوتهم، وربما على موائد أخرى خارج الحدود!

وإذا كان حسني مبارك قد دفع ثمن هذه التلويحة وتلك الابتسامة، بالعودة العاجلة إلى سجن طرة بدلا من المستشفى العسكري في المعادي، فالمصريون دفعوها مليونية من جماعة الإخوان باسم "تطهير القضاء"، مليونية أحاطها بعض العنف من جانب المعارضين لها، وبعض الدماء المسالة من الجانبين.. ومزيد من الفوضى في الشوارع!

وقد تكون هذه أول مظاهرة في تاريخ الكرة الأرضية، وربما في الكون كله بسماواته السبع وعوالمه التي لا نعرفها، تخرج ضد السلطة الوحيدة المستقرة في أي دولة.

فشاغلو السلطتين التنفيذية والتشريعية متغيرون حسب صندوق الانتخابات، والبقاء فيهما محدد المدة ما بين اربع إلى ثماني سنوات حدا أقصى، وقد تصل في بعض الدول مثل فرنسا إلى عشر سنوات..

لكن سلطة القضاء ثابتة وجذورها متشعبة في تربة المجتمع، وشاغلها لا يتوقف عنها إلا بخروجه إلى المعاش، لأنها سلطة فنية منقطعة الصلة بأحوال السياسة، في أداء وظيفتها وأعمالها! المهم أن جماعة الإخوان أخذت تلويحة الرئيس وابتسامته حجة إضافية، في إعلان الحرب على القضاء! هذا جانب من المسألة..

لكنه لا يساعدنا في فهم حالة ابتسامات مبارك بعد عامين في السجن، وكان طول محاكمته الأولى نائما على سرير المرض خلف قضبان قاعة المحاكمة، مخفيا وجهه تحت نظارة سميكة، وأمامه ولداه علاء وجمال يمنعان الكاميرات من كشف ملامحه كاملة! وقد فتح مجلس الشورى جلسة حوار عن التلويحة والابتسامة.

وبدا من المناقشات أن ثمة خطرا يلوح في الأفق اسمه حسني مبارك، يهدد سلطة الإخوان في حكم مصر، وفسر بعض أعضاء المجلس من الجماعة، المسألة بأن مبارك سعيد بما تفعله الثورة المضادة في الشوارع، من مظاهرات وعنف وقطع طرق وحرق مقرات الجماعة، وتعطيل مشروع النهضة، والتآمر لإسقاط الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، ليعود هو إلى السلطة.

وأن مبارك وولديه وأنصاره يمولون هذه المؤامرة الشيطانية! وهذا تفسير معلب أو سابق التجهيز، تجهضه تساؤلات ساذجة غير خبيثة، فلو أن مبارك بهذه القوة الهائلة، فكيف تخلى عن السلطة بهذه السهولة؟! ولماذا لم تتحرك هذه الثورة المضادة القوية خلال ثورة 25 يناير لحمايته من السقوط؟! ولماذا نامت في العسل حتى سقط النظام ثم بدأت في التحرك لإعادته؟!

والسؤال الأهم: هل يمكن أن يعود مبارك إلى السلطة؟! بالقطع، لا..

صحيح أن أحوال المصريين العامة ساءت تماما عما كانت عليه أيام مبارك، في كل جوانب الحياة تقريبا، بل إن الدولة المصرية تواجه لأول مرة في تاريخها الحديث، خطر تغيير هويتها وشكلها كما عرفهما العالم.. وصحيح أيضاً أن ثمة مصريين بسطاء يتمنون عودته، لكنها من رابع المستحيلات..

المجتمع المصري تغير بشكل يصعب أن يقبل ولو بالإكراه العودة إلى الماضي، خاصة أن هذا الماضي فيه كثير من المثالب والعيوب والمظالم، والمصريون - وبالأخص شبابهم - يحلمون بمجتمع جديد مختلف، وهؤلاء الشباب يمثلون أكثر من 60% من تعداد الشعب البالغ نحو تسعين مليون نسمة تقريبا، أي أن نحو 54 مليون مواطن أعمارهم أقل من أربعين عاما، وقد ذاقوا طعم الحرية والتمرد والخروج على الاستبداد والظلم..

وأتصور أنهم سيستكملون الطريق إلى الدولة الجديدة، مهما كانت التضحيات والتكلفة، وهي باهظة جدا!

نعود إلى السؤال الأول: لو الواحد مكان مبارك في القفص الحديدي ماذا كان سيفعل؟! قطعا كان سيلوح بيديه ويبتسم كما فعل الرئيس مبارك بالضبط.. فالموقف مدهش حقاً.. فالرجل معلق في رقبته اتهام بقتل المتظاهرين في أحداث ثورة 25 يناير، وهو نفس الاتهام الذي يمكن أن يطارد الرئيس المنتخب محمد مرسي في أحداث المظاهرات والاعتصامات التي حدثت منذ إصداره الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي..

الفارق الوحيد هو رقم الضحايا الذين سقطوا، ثمانمائة شهيد مقابل مائة، وفي جرائم القتل الكبرى، العدد يُشدد من أسباب العقوبة، ولا يمس نوعها وجوهرها.. وحيثيات إدانة مبارك في محكمة الجنايات الأولى، لم تكن بسبب إصداره أوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وإنما لأنه علم بقتلهم ولم يتخذ التدابير اللازمة لحمايتهم، أي الإهمال العمد في حماية مواطنيه، كما أقسم على هذه الحماية دستوريا حين توليه السلطة، وهو نفس الحال مع الرئيس المنتخب!

أليس في هذا الموقف ما يدعو للابتسام الساخر والتلويح للجماهير؟!

 

Email