إن لم تخرس

ت + ت - الحجم الطبيعي

سأحكي لكم في نهاية مقالتي قصة رد معاوية على رسالة هرقل والتي وصلتني للتو، ولكن قبل ذلك دعوني أخبركم بأنه:

حدث لأحد الأشخاص أنه كان يشعر برغبة ملحة في الصعود إلى سطح أحد المباني ليرمي بنفسه منها، فقرر بعد مقاومة طويلة الخضوع طواعية لهذه الرغبة القاتلة. فاختار إحدى العمارات الشاهقة وبدأ في الصعود، درجة درجة، وهو يعلم في داخله بأنه إنما يصعد إلى حتفه. وحاول كل من صادفه رده عن قراره، غير أنه رغم كل تلك التحذيرات استمر في الصعود.

يا ترى، لو كنتم في مكان هذا الرجل، وكنتم في كامل وعيكم، ترى ما كنتم فاعلون؟

بالتأكيد سوف تتراجعون بعد أول درجة، بل سوف ترفضون الفكرة من بدايتها، وهذا أمر طبيعي وبديهي لرجل في كامل وعيه. أليس كذلك؟

لكن، ماذا ستكون ردة فعلكم لو ذكرتكم بأننا ــ جميعاً نعيش اليوم حالة هذا الرجل الهستيرية ــ ذاهبون إلى حتفنا نتيجة لا وعي ورغبة غريبة في السقوط إلى الهاوية؟

إن مثل هذا الشعور بالسقوط في الدوار يعيش بداخلنا دون أن نشعر به، لدينا رغبة ملحة في تدمير الذات، بما يشبه السحر الذي لا خلاص منه، من أعراض الشخص المسحور شعوره بعدم قدرته على التخلص من أثر السحر عليه والانجرار نحو الموت المحتوم. بالطبع أنا لا أتحدث هنا عن ظاهرة فردية كما يحدث لضحايا السحر والشعوذة، ولكن هذه الظاهرة الفردية تطورت لتصبح على مستوى الشعوب المسلمة.

هذه الشعوب ولكثر ما تؤمن بالسحر وملحقاته أصبحت مهووسة به أكثر من أي وقت مضى، وتحولت مع مرور الوقت من شعوب تملك حضارة عريقة أبدعت في الفكر والعلوم إلى شعوب مسحورة مهووسة تشبه الفراشات التي تلقي بنفسها في النار. الفرق بيننا هو أن الفراشة تبحث عن الضياء ونحن نبحث عن الظلام.

كل مسلم (ومن بينهم العرب) يعرف تمام المعرفة بأننا أولا مستهدفون. وثانيا بأن المعسكر المعادي تعدى مرحلة الاستعمار إلى مرحلة القضاء على وجودنا. ونعلم بأن خطته المثلى في القضاء علينا أصبحت مفضوحة ولم تعد سرا على أحد، وتتمثل في (خلق واختلاق) الخلافات بين المسلمين. يا ترى استغل أي نوع من الخلافات؟

الغرب يعلم بالدرس والتجربة أن شرارة النزاع بين المسلمين والعرب لا تشتعل في إضرام فتيلة الخلافات اللونية ولا العرقية ولا تلك المتعلقة بالخلافات على ترسيم الحدود الجغرافية وإنما في إشعال فتيل الاختلافات المذهبية، فاكتفى بها دون غيرها وترك الباقي علينا.

لو تمعنا النظر في النزاعات الإسلامية/ الإسلامية اليوم، لوجدناها كلها تعود إلى اختلافات مذهبية غير ذات أهمية أقحم فيها التعصب العرقي فيما بعد. وقد أدى هذا التعصب المذهبي إلى أبعد من النقاش الفكري والفقهي للمسائل المختلف عليها، وخرج عن إطار المختصين في المسائل الشرعية إلى العامة ثم إلى الرعاع من البشر المحسوبين على الإسلام، لأن الإسلام الحق ينهي عن البغضاء والفحش واستخدام الألفاظ النابية ضد الآخر حتى ولو كان كافرا بالله على مبدأ (وجادلهم بالتي هي أحسن).

وتحول الخلاف اللفظي النابي الذي لا يعتمد على النقاش الفقهي إلى معارك مسلحة كما نرى اليوم في كل وطننا المسلم. وأنت وأنا نعلم والجميع يعلم بأن هذه الخلافات من صنع جهات دخيلة ونعرفها بالاسم ومتيقنين من أغراضهم وأننا مستهدفون بها ومع ذلك ندفع بأنفسنا إلى سطح المبنى الشاهق تحت تأثير ترياق السحر الذي لا نعرف كيف نخلص أنفسنا منه.

سبحان الله!! قبل الانتهاء من كتابة آخر سطر من هذه المقالة، وصلتني رسالة على برنامج الواتس أب، تحكي أن معاوية بن أبي سفيان استلم رسالة من قيصر الروم يقول فيها: (علمنا بما وقع بينكم وبين علي بن أبي طالب، وإنا لنرى أنكم أحق منه بالخلافة، فلو أمرتني أرسلت إليك برأس علي). فرد عليه معاوية : (من معاوية إلى هرقل: أخان تشاجرا فما بالك تدخل فيما بينهما! إن لم "تخرس" أرسلت إليك بجيش أوله عندك وآخره عندي يأتونني برأسك أقدمه لعلي).

وأختم مقالتي بها...

 

Email