فحوصات شاملة

ت + ت - الحجم الطبيعي

"تعلن الخطوط الجوية العلاجية عن إقلاع رحلتها المتجهة لمدينة الفحوصات الشاملة.. الرجاء من المسافرين التوجه إلى البوابة لركوب الطائرة!"، سيناريو يتكرر بشكل دوري في بلادنا. عشرات المواطنين ينطلقون بمعاناتهم وتخوفاتهم إلى شرق الأرض وغربها، للاطمئنان على أغلى ما يملكون "صحتهم". وحيث إن جميع المراجع العلمية تنصح بالفحص المبكر عن الأمراض المختلفة، فإن هدف معظم المسافرين هو "الفحوصات الشاملة".

قبل الحديث عن أسباب عمل الفحوصات خارج الدولة، سأذكر مبدأ الفحوصات الشاملة. في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الجراثيم من بكتيريا وفيروسات هي السبب الرئيس لحدوث الأمراض والوفيات، وتمت السيطرة عليها في أواسط القرن العشرين باكتشاف المضادات الحيوية واللقاحات.

لكن ذلك تزامن مع الثورة الصناعية، وأطلت الاختراعات من كل صوب وحدب، مما أدى إلى تغير نمط الحياة. بالنتيجة ظهرت مجموعة جديدة من الأمراض تميزت بكونها مزمنة ومتداخلة، وتنتقل مثل الإرث من جيل لآخر عبر بوابة الجينات والوراثة. في البداية احتار العلم في كيفية علاج هذه الأمراض والسيطرة عليها.

وبعد العديد من البحوث والتجارب تم التوصل إلى مجموعة من الفحوصات المخبرية، التي تساعد في الكشف المبكر عن قابلية الفرد لأحد الأمراض المزمنة، من ضغط أو سكري أو قلب أو بعض أنواع السرطان، وتم بعدها تداول مسمى "الفحوصات الوقائية أو الشاملة" في الوسط الطبي.

هنا يجب التنويه إلى أنه في حالات عديدة، يكون تعريف المريض لهذه الفحوصات مختلفا عن الطبيب. مثلا البعض يصنف فحص أشعة الصدر ضمن قائمة الفحوصات الشاملة، لكن المراجع العلمية ترى غير ذلك، مما يؤدي لاختلاف وجهات النظر بين الطرفين. وهنا تقع المسؤولية على عاتق الطبيب في تبيان ما يندرج علميا تحت بند "الفحوصات الشاملة" لكل مريض، حتى تكون المخرجات سليمة.

نرجع لسبب عمل الفحوصات خارج الدولة.. كان هذا التساؤل دائما يدور في مخيلتي، فالدولة أوجدت بنية تحتية في مجال الصحة قلما يستطيع الآخرون الحصول عليها، ورغم ذلك تعج المطارات بالمسافرين. قررت أن أخوض التجربة بنفسي، فحجزت مقعدي على متن الخطوط العلاجية، وقصدت إحدى مدن الفحوصات الشاملة. بعد وصولي للمستشفى استفسرت من موظفة الاستقبال عن الإجراءات لحجز موعد لعمل الفحوصات الشاملة. كانت الصدمة أنني لا أحتاج إلى موعد.

وأستطيع البدء بالفحوصات عند اللحظة. بعدها استلمت ورقة تحوي قائمة بالفحوصات، وباللغة العربية وبأسلوب سهل بسيط. ثم تلقيت الصدمة الثانية.. ظهرت ممرضة من داخل الغرفة، وبعد أن عرفت بنفسها باللغة العربية أيضاً، قالت بأنها سترافقني في كل محطة فحص وستذلل أي صعاب قد تواجهني!

تأكدت من البطاقة أنني في مستشفى وليس فندقا! لم تنته القصة بعد، حيث إنني كلما كنت أصل إلى محطة فحص يتم استقبالي بالعصير الطازج (طبعا للفحوصات التي لا تحتاج لصيام)، ويكون الملف الصحي الخاص بي جاهزا للبحث والنقاش. وبما أن جسم الإنسان يحوي أعضاء مختلفة، كانت الفحوصات الخاصة بكل عضو في طابق مختلف من المستشفى. وأزيد من الشعر بيتا؛ كانت نتائج الفحوصات جاهزة في نهاية اليوم!

تجربة مختلفة ومميزة، جعلتني أتمنى خوضها مرة أخرى في اليوم التالي. لكن لاحظت شيئا مهما جدا، وهو أن الأجهزة والمعدات المستخدمة للفحوصات عندهم ليست أفضل مما عندنا، وقائمة الفحوصات الشاملة لم تأت من كوكب آخر (نفس الفحوصات متوفرة لدينا).. فأين الفرق؟ وجدتها في نقطتين رئيسيتين هما: المعاملة الطيبة، والاحترام.

الإنسان عبارة عن جسم وروح، وإذا ارتاحت الروح وارتوت من المعاملة الطيبة، يستجيب الجسم ويرتاح. ولماذا نذهب بعيدا فديننا هو "دين المعاملة"؟ عندنا يعذر بعض العاملين في الحقل الصحي بضغط العمل والمناوبات، كسبب للمعاملة الباردة تجاه المرضى والمرتادين، لكن أليس الممرضون ملائكة الرحمة والأطباء هم البلسم الشافي؟! الابتسامة الصادقة والمعاملة اللينة، لهما أثر السحر في استجابة المريض والمرض أيضا، على حد سواء.

الاحترام بدوره يلعب دورا محوريا هاما جدا في تعزيز ثقة المريض، وطالب الفحص بطبيبه، من وجهة نظري هو السبب الرئيسي في السفر إلى الخارج لطلب الفحص والعلاج. فعندما يشرح الطبيب التفاصيل للمريض فهو يحترمه، وعندما يستأذن الطبيب من المريض لعمل فحص ما فهو يحترمه، وعندما يتحاور الطبيب مع المريض بلغة سهلة مفهومة ودون التبجح بالمصطلحات الهيروغليفية فهو يحترمه.

وعندما يبتعد الطبيب عن استخدام أسلوب الأمر مع المريض، ويستبدله بالاتفاق المشترك على العلاج فهو يحترمه. ولا ننسى أنه في الآونة الأخيرة أصبحت المعلومة الصحية في كبسة زر واحدة، وفي كثير من الأحيان يأتي طالب الفحص بمعلومات وأسئلة قام بتجميعها من الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وعندما يتفاعل الطبيب مع هذه المعلومات بشكل إيجابي فهو يحترمه.

إذن، بتطبيق وجهي العملة من المعاملة الطيبة والاحترام، قد نستطيع إعادة الثقة المهزوزة في المنظومة الصحية، ونقلل من عدد رحلات الطائرات العلاجية ونجعل العكس صحيحا؛ زيادة القادمين لطلب العلاج وجعل مدننا الحبيبة في صدارة قائمة مدن "الفحوصات الشاملة".

 

Email