الذاكرة المثقوبة للحرب اللبنانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تأتي ذكرى 13 إبريل 1975 هذا العام، في ظروف داخلية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد. فالقوى السياسية اللبنانية مستنفرة جداً لمواجهة استحقاقين كبيرين: تشكيل «حكومة المصلحة الوطنية» برئاسة تمام سلام، وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها في يونيو 2013 بموجب قانون انتخاب جديد تتفق عليه غالبية الكتل السياسية في لبنان.

لم يعد مفيداً تذكير اللبنانيين في مثل هذه الأيام من كل عام، ببوسطة عين الرمانة التي شكل الاعتداء على ركابها منطلقاً لحرب دموية، شاركت فيها قوى لبنانية وفلسطينية، واستدرجت تدخلات سورية بتكليف عربي، واحتلال إسرائيلي لأجزاء واسعة من الأراضي اللبنانية بمباركة من أميركا وبعض الدول الأوروبية.

تورطت نسبة كبيرة من اللبنانيين في الحرب، لكن مناطق عدة من لبنان بقيت بمنأى عن تداعياتها وما رافقها من قتلى، وجرحى، ومقعدين، ومن تعديات على الأعراض والممتلكات. ومنهم من قاوم العنف بصورة انفرادية وتعرض لانتقام المسلحين، في ظل سيطرة الميليشيات على الأحياء الشعبية ولقمة عيش اللبنانيين.

اللافت للنظر أن إعلان العفو العام عن جرائم تلك الحرب، رفع بعض زعماء الميليشيات إلى أعلى المراتب السياسية، وذلك على حساب غالبية اللبنانيين الذين تحملوا مآسيها. كما أن لغة الحرب ما زالت مستمرة، بأشكال متنوعة، في خطب زعماء الطوائف والسياسة ومواقفهم اليومية منذ اتفاق الطائف، ما جعل ذاكرة الحرب الأهلية حية في أذهان اللبنانيين، مع تجدد الاشتباكات بصورة متقطعة في عدد من المناطق اللبنانية، وكثرة حوادث الخطف والخطف المضاد، وفرض «الخوّات». وهي تذكر بمخاطر تجدد الحرب، في ظل دولة رخوة وانقسام سياسي حاد، وتراجع مريع من الطائفية إلى المذهبية.

اليوم، بعد قرابة ربع قرن على اتفاق الطائف، يحرص بعض السياسيين في لبنان على استخدام أساليب تنذر بتجدد الحرب. فالخلاف في ما بينهم مستفحل داخل مؤسسات الدولة وفي الشارع، والحرب المضمرة ما زالت حية في خطبهم اليومية. وبين حين وآخر يعيد بعض السياسيين تذكير اللبنانيين بأن المرحلة الراهنة تشبه إلى حد كبير مرحلة العام 1975، وذلك بسبب غياب السلطة المركزية القوية، وعدم الاستقرار الأمني، وكثرة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وانسداد الحلول السياسية للأزمة السورية، التي تفرض على جميع اللبنانيين التنبه إلى مخاطرها السلبية الكبيرة.

كانت الحرب في لبنان وما زالت متعددة الأسباب والتجليات، وقد استدرجت النزاعات المسلحة بين الطوائف والأحزاب والتنظيمات اللبنانية، نزاعات إقليمية ودولية. ومن السهل الإشارة إلى صراعات دموية بين اللبنانيين، ومع آخرين وفي ما بينهم على أرض لبنان.

ومع أن اتفاق الطائف أوقف الحرب اللبنانية، فإن السلم الأهلي البارد أو الهش، تزامن مع حروب صغيرة ونزاعات متواصلة بين زعماء الطوائف والميليشيات اللبنانية، انتقلت من الشارع إلى أحضان الدولة، فكانت النتيجة تغييب الدولة ومؤسساتها لصالح زعماء الطوائف المتناحرة، الذين ما زالوا يديرون بذهنية الميليشيات المسلحة التابعة لنفوذهم، وتراجع نفوذ الدولة المركزية، وأصيب الاقتصاد اللبناني بنكسات بليغة ومتلاحقة، جعلته عاجزاً عن النهوض في ظل دولة رخوة، وارتفع حجم الدين العام ليقارب 60 مليار دولار، وتقلصت نسبة الطبقة الوسطى من 73% في مطلع سبعينات القرن العشرين، إلى أقل من 20% في المرحلة الراهنة.

تجدر الإشارة إلى أن الجيش اللبناني، الذي استعاد وحدته على قاعدة العداء لإسرائيل ورفض الانقسام الطائفي، ما زال متماسكاً بقوة، ويشكل خشبة خلاص تنقذ لبنان واللبنانيين.

ورغم استمرار بعض المربعات الأمنية التي يصعب على القوى الأمنية الشرعية الدخول إليها، أثبت الجيش كفاءة ملحوظة في ضبط الأمن، وحماية وحدة لبنان وشعبه، ومنع تداعيات الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من سنتين، من تفجير الساحة اللبنانية.

 لكن الجيش اللبناني بحاجة إلى نظام سياسي متماسك، وأحزاب سياسية من نوع جديد، تتجاوز الانتماء الطائفي إلى الانتماء اللبناني الجامع، وذلك يتطلب التوافق على قانون عصري للانتخاب، يعبر بدقة عن تطلعات اللبنانيين لبناء دولة ديمقراطية سليمة، وحكومة مركزية قوية ومتجانسة، تعيد للدولة هيبتها وتمنح الثقة والاطمئنان للبنانيين بغد أفضل.

وقد تنبه اللبنانيون هذا العام لمخاطر تجدد الحرب في لبنان، فنظمت القوى الديمقراطية أكثر من لقاء وندوة، في إطار «المبادرة الوطنية لحماية السلم الأهلي ومنع تجدد الحرب في لبنان».

ونظمت جمعية «فرح العطاء»، تجمعات حاشدة في مناطق لبنانية عدة يوم 13 نيسان 2013، تحت شعار «13 نيسان واحدة تكفي»، وعقدت مهرجاناً موسيقياً كبيراً قرب المتحف الوطني. وأقام رجال دين من جميع الطوائف اللبنانية، صلاة إسلامية مسيحية مشتركة، أمام نصب الشهداء وسط بيروت، لمنع تجدد الحرب الأهلية في لبنان.

وأحيا بعض الفنانين والفنانات أمسيات موسيقية خاصة، وترانيم سلام في ذكرى الحرب.

ومع أن قوى إقليمية ودولية عدة، ومنها دول كبرى، لا تريد إنهاء الحرب الدائرة في سوريا، قبل تدمير البنى التحتية والاقتصادية والعسكرية والتراث التاريخي والثقافي فيها، إلا أن غالبية الدول المهتمة بالأزمة اللبنانية، تسعى إلى منع تفجير الساحة اللبنانية والعمل على صياغة توافق لبناني، على قاعدة تلاقي المصالح المشتركة لضمان استقرار لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، ومنع انتقال تداعيات الأزمة السورية إليه.

ويتوقع بعض المراقبين أن تساعد الضغوط العربية والدولية في تشكيل «حكومة المصلحة الوطنية» المرتقبة برئاسة تمام سلام، لتعبر بوضوح عن تقاطع المصالح اللبنانية والعربية والدولية في منع زعماء اللبنانيين من الانجرار نحو حرب جديدة.

ختاماً، بعد ثمانية وثلاثين عاماً على انفجار الحرب اللبنانية عام 1975، وقرابة ربع قرن على اتفاق الطائف الذي أوقف تلك الحرب عام 1989، دون أن يزيل الأسباب المساعدة على تفجيرها في أية لحظة تحت وطأة النزاعات الداخلية والتدخلات الخارجية، يتساءل اللبنانيون عبر مختلف طوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم وارتباطاتهم الخارجية، عن مدى قناعة زعمائهم بأن الحرب لا تقدم حلاً للمشكلات اللبنانية الموروثة والبالغة التعقيد.

وعليهم التعلم من مآسي تلك الحرب وما رافقها من أعمال إجرامية في حق جميع اللبنانيين، وبذل كل الجهود الممكنة لطي صفحة العنف، والعمل على حل المشكلات بالطرق السلمية، من خلال دولة ديمقراطية تضمن المواطنة الحقيقية، التي تساوي بين جميع اللبنانيين في الحقوق والواجبات.

 

Email