العزلة النفسية والمعرفية للإسلامويين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأخطاء العلمية التي وقع فيها الرئيس المصري، في خطابه في الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا لدى منحه الدكتوراه الفخرية في إسلام أباد وردود الفعل حولها، ليست معركة سياسية ولا مناكفات حزبية، كما أنها لا تنم عن مكايدة للرئيس ولا مسعى لتشويه السمعة، بل هي مؤشر واضح لمعضلة المعرفة والتاريخ في مجتمعاتنا العربية، تعبر في أحد مؤشراتها البارزة عن عزلة نفسية ومعرفية تعيشها الجماعات الأيديولوجية عموماً، وإسلاميو البلدان العربية على وجه الخصوص.

لقد رد أنصار الرئيس المصري على الدكتور يوسف زيدان حول المعلومات «المغلوطة» التي وردت في الخطاب، بشكل مليء بالحماسة بأن «ويكيبيديا تكذبك». حماسة لا علاقة لها بالعلم ولا التاريخ، وهما موضوع الجدل نفسه. فالتوضيحات التي علق بها زيدان حول خطاب الرئيس، كانت تتطلب رد فعل من نوع آخر. بحث وتدقيق في المصادر والمعلومات بالدرجة الأولى، ونقاش وجدل علمي، وليس رداً على طريقة «إنك لن تعرف أكثر من الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)».

إذا ما تعلق الأمر بمصادر المعلومات المتعلقة بإسهامات العلماء العرب والمسلمين التي وردت في خطاب الرئيس مرسي، فقد كان الأجدر بمعدي خطاب الرئيس الرجوع إلى «موسوعة العلماء المسلمين»، وهي مؤلف مصري لنخبة من المفكرين والباحثين المصريين، وأشرف عليه الأزهر وصدر في سبعينات القرن الماضي. فالثقة بالموسوعة الحرة (ويكيبيديا) لا تدل على حداثة من أي نوع أو مسايرة لثورة الاتصالات والمعلومات، بل مؤشر آخر على عزلة معرفية لإسلاميي البلدان العربية، تجعلهم على الدوام أسرى تعميمات ثقافية وسياسية، وليسوا أصحاب جدل وبحث دائم.

أما حول شكر باكستان على دعمها لمصر في حرب أكتوبر 1973، فكان الأجدر بمعدي خطاب الرئيس أن يعودوا إلى كتاب «حرب أكتوبر ــ مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي»، رحمه الله، الذي أورد بالتفصيل مراحل الإعداد لحرب أكتوبر، ويوميات الحرب وتفاصيلها، وتفاصيل الدعم الذي تلقته مصر من بعض الدول وليست من بينها باكستان، بل من دول عربية مثلما رتبها الشاذلي حسب نوعية الدعم وحجمه.

قد تحتمل المعلومات حول العلماء المسلمين النقاش والبحث والجدل، لكن النقاش الذي أعقب مقال زيدان، اتخذ منحى آخر تماماً، تحول معه إلى مساجلات سياسية مبتذلة، تدور أساساً حول النوايا مثلما هو الحال دوماً في «الهوس المرضي» بالنوايا في خطاب الإسلامويين والأيديولوجيين عموماً.

لكن لهذه القطيعة المعرفية التي يعيشها الإسلامويون، مظاهر أخرى بارزة تغيب في لهاث المساجلات السياسية والحزبية التي تتسم بالمكابرة دوماً.

وإذا ما تعلق الأمر بالرئيس مرسي، فإن قراره المتعلق بالدعوة إلى الانتخابات البرلمانية، يفصح عن مظهر آخر شاخص لهذه القطيعة، عندما لا تعرف مؤسسة رئاسة الجمهورية بكاملها وبكل من فيها من عاملين ومستشارين، أن موعد الانتخابات البرلمانية الذي تم تحديده أولاً في 27 أبريل يصادف أعياداً لدى الأقباط، حيث تدارك الأمر بعد يوم واحد بقرار آخر يقدم موعد هذه الانتخابات.

كيف يمكن تبرير جهل مؤسسة بأكملها بمناسبة كهذه لمواطنيها المسيحيين؟ إن هذا الخطأ لا ينم عن سهو أو زلل، بل عن جهل لا يمكن تبريره لمؤسسة رئاسة بأكملها، وهو يمثل أحد مؤشرات هذه العزلة النفسية والمعرفية التي تحيط بالإسلاميين في مجتمعاتنا.

وإذا ما تعلق الأمر هنا بالإسلاميين المصريين، فإن التدقيق في المقولات المتداولة حول الأقباط المسيحيين، هو أكثر ما سيقودنا إلى هذه القطيعة التي تظهر أن إسلاميي مصر (وإخوانهم العرب)، لا يعرفون شيئاً عن مواطنيهم الأقباط أكثر من مقولات مبتذلة، وتعميمات أنتجتها عزلتهم النفسية والمعرفية عن مجتمعهم، وراحت أجيال وراء أجيال منهم تستقيها من مواقع الإنترنت ويتعاملون معها باعتبارها حقائق مسلماً بها لا تقبل النقاش، تماماً مثلما يشخصه مثال الاعتماد على الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) لكتابة خطاب الرئيس.

 الأدهى، هو أنهم ليسوا في وارد تصحيح معلوماتهم، ولا في وارد الاقتراب من مواطنيهم الأقباط سعياً نحو فهم أفضل، ولا في وارد البحث في تاريخ مصر الطويل والعريق لكي يكتشفوا حقائق ستذهلهم حتماً عن الأقباط، وستدفع الإنسان السوي نحو تصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة.

إن الإنترنت ليست مرجعاً «لا يأتيه الباطل»، بل هي شبكة إلكترونية عالمية مفتوحة، أي وسيلة تقنية يمكن لكل من يملك حاسوباً أو هاتفاً ذكياً الولوج فيها وكتابة ما يشاء، حتى في العلوم والفيزياء والفلسفة وعلم النجوم والبحار، بل وحتى مخططات ومؤامرات، والادعاء أيضاً بأن هذه وثائق سرية مسربة، لكن مصداقية المعلومات أمر آخر.

وقبل فترة، كنت أشاهد مقابلة للمذيع المصري خفيف الظل باسم يوسف مع قناة للسلفيين، كان المذيع يجادل يوسف حول نوايا الأقباط في تقسيم مصر، مستدلاً على ذلك بما ينشر في شبكة الإنترنت حول مخططات كهذه.

لكن باسم يوسف أوضح بكل بساطة ما يعرفه الكثيرون من أنه ليس كل ما ينشر في شبكة الإنترنت يعتبر صادقاً، بل قد يكون مضللاً. واستغرق النقاش في هذه النقطة زمناً غير قليل من المقابلة، لكن المحاجة الواعية لباسم يوسف دفعت المذيع إلى أن يعد بمراجعة حول هذا الأمر وتصحيح أي معلومات خطأ يكتشفها.

لكن هل تقتصر هذه القطيعة أو العزلة المعرفية على الإسلاميين فحسب؟ بالتأكيد، لا.. فهي تكاد تكون القاسم المشترك لدى كل الأحزاب والجماعات الأيديولوجية أياً كانت. فالفكرة الأيديولوجية لمعتنقيها، هي فكرة خلاصية تقوم على اعتبار كل ما عداها باطلاً، وأن لديها أجوبة لكل الأسئلة؛ من شؤون الحياة اليومية إلى الأسئلة الكونية الكبرى.

أخطر هذه الأفكار الأيديولوجية، هي تلك التي تستند إلى الدين، لهذا فإن الأيديولوجيين الدينيين هم أخطر الأيديولوجيين.

 

Email