الحصار والتقويض المزدوجان

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المفيد، بل من الضروري، مراجعة ما كان بالأمس القريب في المنطقة العربية، لكي نقترب من مُعاينة الحقيقة الماثلة في المنطقة برمتها، وهي في شواهدها ومشاهدها الكئيبة تؤشر إلى حالة من التنافي الداخلي، المقرون بقدر كبير من التعصب والاستقطاب.

وعدم الاعتراف بالحقيقة الموضوعية القائلة بأن كل زمان ومكان سياسيين لا معنى لهما بدون التنوُّع، والتنوع الأقرب إلى التدافع والمُغالبة. لكن التدافع الحميد مقرون بفن إدارة الخلاف والاختلاف، الموصول حصراً بالمصالح المشروعة لمختلف فئات المجتمع، وهذه المصالح لا يمكنها أن تُعبِّر عن نفسها دونما تحديد واضح لمعالمها.

تاريخ البشرية المعروف محكوم بهذه الحقيقة، ولم يصل الناضجون إلى عقد اجتماعي للأمة إلا بناءً على هذه المقدمات، التي جعلت من أوروبا القرون الوسطى بيئة للمرض والجوع والموت، وكذا الإقطاع الذي كان يستمد نبله الواهم من دعم الكنيسة واستغلال الناس أبشع استغلال. وعندما جاءت المرحلة البورجوازية التي تميزت بتكديس الثروة، لم تنفع تلك الثروة ملايين الفقراء من العمال المياومين.

وحشداً هائلاً من المهمشين الذين كانوا يعيشون أدنى من مستوى حياة البشر. لكن أوروبا ما بعد المرحلتين الاقطاعية والبورجوازية، صحت وثارت ضد جلاديها، لينفتح طريق جديد تتمثَّل نتائجه في ما نراه اليوم من تميز في السلم الاجتماعي العالمي لا ريب فيه.

هذا ما حدث في كامل العالم الرشيد، الذي انتهى إلى جوهرية القوانين الوضعية بوصفها تُرجماناً مؤكداً لمقاصد الشرائع السماوية، طالما توخَّت العدل والمساواة والفضيلة ومكارم الأخلاق، وهذا ما نفتقر إليه في العالم العربي، ممَّا يُفسر حالة الغليان الدائمة والمتجددة، بوصفها حالة نابعة من أقاليم المتاهات الحياتية، والحيرة الدنيوية، والقهر الاجتماعي الذي يصل إلى حد التقطير العُنفي فيزيائياً ونفسياً.

لكنني هنا لست بصدد مواصلة هذا الاستطراد الذي قد يبدو مفارقاً للعنوان، وعليه من المهم العودة إلى فكرة الحصار والتقويض المزدوجين، التي ظهرت في تطبيقاتها الأكثر نمطية بعد الحرب العراقية الإيرانية، لكنها لم ولن تختفي في المدى المنظور مما سنأتي على أبعاده لاحقاً.

تلك الحرب شُنَّت من قبل أحد "أشاوس العرب" المُجيَّرين اليوم على ذمة الغيب، وكانت بدقة العبارة حرباً بالوكالة، قام بها من توهم أنه الحارس الأمين لشرق العالم العربي، وهو لا يدري أنه إنما ينفذ أجندة ملتبسة بخدمة من يتمنى تقويض الدولتين والكيانين في العراق وإيران.

شُنَّت تلك الحرب بالتوازي مع مشروع الخمينية السياسية في إيران، والتي أرعبت اليهودية السياسية الدولية المُتصَهينة، لمجرد أنها تنتمي إلى فقه ديني تاريخي لا يختلف في بعض ملامحه عن النصوص اليهودية التوراتية الغارقة في لُجَّة النبوءات والغيبيات، والقائلة بحرب "هرمجدونية" قادمة. لكنها بحسب هذا الفقه الديني التاريخي، ستعيد العدالة المفقودة للنوع اليهودي المُطارد أبد الدهر، وستمكنهم من الأرض الموعودة، وستجعلهم الغالبين.

سياسة الحصار المزدوج التي ترافقت مع الحرب العراقية الإيرانية في تسعينيات القرن العشرين المنصرم، كان مهندسوها الحقيقيون قابعين في خفاء سيناريوهاتهم السياسية المدمرة، فقد توخّى هؤلاء تقويض العراق وإيران معاً، بوصفهما قوتين إقليميتين واعدتين، وبهذا المعنى اعتمدوا الهجوم المزدوج الذي جاءت ترجمته اللاحقة حصاراً مزدوجاً ضد البلدين معاً.

ومن الجدير بالإشارة هنا أن الطرفين قدما خدمة ناجزة لمهندسي تلك الحرب المريبة، فقد كان لا بد من إضعاف طموحات نظام صدام، مع زعزعة مشروع الثورة الإيرانية التي تتقاطع سلباً مع اليهودية السياسية النابعة من ذات الاستيهامات الهرمجدونية.

قد يعتقد البعض أن ما نقوله ضرب من الافتراضات والتقديرات الخرافية، لكنها ليست كذلك إذا قرأنا بإمعان تلك النصوص المسطورة في العهدين القديم والجديد، والتي تجد لها رجع صدىً مؤكدا في "إسرائيليات" بعض مُسلمي الشريعة المكتوبة، اجتهاداً والتباساً بأحوال الدنيا وسلطانها الجائر، لا الحقيقة القرآنية الناصعة.

هذه الحالة النابعة من أديان الشريعة الشرق أوسطية، ذات الامتدادات الأوروبية الأميركية، كانت وما زالت تُشكّل محنة المحن في العلاقة بين الشرق "العرب إسلامي"، والغرب "الأورو أميركي" بنسخته اليمينية الراديكالية، والشاهد ما ذهب إليه المفكر الأمريكي "هانتغتون" الداعي لصراع الأديان والحضارات، كما لو أنه يقرر حتمية هذه الحرب الكونية، تأسياً بما ورد في متون بعض الكتب الدينية القديمة.

نشبت حرب "قادسية صدام" لتنبش في الأحقاد التاريخية التي تلت قادسية العرب المسلمين، ولتجعل الخلاف العربي الإيراني موصولاً باستدعاءات تاريخية مزاجها الانتقام والاستقواء. وقد تمنَّى مهندسو الخفاء في تلك الحرب، أن تنتهي بتقويض الطرفين، غير أن النتائج لم تصل إلى ما تمنّوه، فإذا بهم يشرعون في إشهار حصار مزدوج ضد الطرفين (إيران والعراق).

ومن عجائب الأيام ودسائس السياسة أن العراق الذي كان مَرضياً عنه طوال سنوات الحرب الثماني، سرعان ما تحول إلى طرف أصيل في الحصار المزدوج، بعد أن ثبت عجزه عن إكمال رسالة التقويض المزدوج للطرفين المتحاربين. وهكذا تبيّن ناصعاً أن أهداف الحرب لم تكتمل، وأن الذين غرقوا فيها ودفعوا أثمانها الباهظة غير مرضيٍّ عنهم.

وكان ما كان من حصار مزدوج أضر بالعراق أكثر من إيران، وأوصل لاحقاً إلى مصيدة الاجتياح المجنون للكويت، كيما يتمهَّد السبيل لحرب "عاصفة الصحراء" التي لم تنهِ الحرب العظيمة، ولم تكمل مشوار إزالة النظام العراقي، بل تركته في مهب الريح لينال مصيره المحتوم بعد حين، ولتنفتح صفحات جديدة لسيناريوهات مستقبلية أشد وأنكى.

ومن عجائب القدر أن نظام صدام انتهى من حيث ابتدأت الفتوة المتجددة للنظام في إيران، وتلك واحدة من تجليات مكر التاريخ والأيام، وسنرى ما تلا ذلك من تداعيات لن تخرج جوهرياً عن منطق الحصار والحروب بالوكالة، وبروفتها الأكثر تراجيدية ما يجري اليوم في سوريا.

هذا الاستدعاء الوامض لسياستي التقويض والحصار المزدوج، التي توخت ضرب عصفورين بحجر واحد، أردت منه قراءة واقع الحال في المنطقة العربية. ولعل الحالة السورية هي الأظهر والأكثر صعقاً، لكونها مغموسة بالدماء والدموع، ولكون النظام السوري الذي كثيرا ما استطاب إدارة الحروب الإقليمية بالوكالة، يشرب من ذات الكأس ليقع في شر أعماله، ويجد نفسه أمام حرب الحروب بالوكالة.

ما جرى بالأمس وما يجري اليوم يتطلب منا مراجعة الماضي القريب، لنعرف الأسباب والمقدمات الحقيقية لما حدث، ولنتابع النتائج بعين باصرة، وعقل متقد، وصولاً إلى الإمساك بتحديات الراهن المُترع بالبلايا والنوائب.

 

Email