مصر.. صراع بدون قواعد

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا تعيش مصر حالة من عدم الاستقرار، رغم وجود رئيس منتخب منذ 24 يونيو 2012، رغم إقرار دستور (حتى لو كان مختلفاً عليه)، ورغم وجود حكومة؟

يبدو المشهد المصري سريالياً وهو يغرق في أتون الفوضى، والحياة السياسية فيها اختزلت لتدور في الشارع، أو بمعنى أصح باتت «رهينة ما يجري في الشارع».

ليست هناك حياة سياسية في مصر منذ انتخاب الرئيس محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان المسلمين، بل مواجهات مستمرة في الشارع تحت قضايا لا حصر لها، لكنها تبدو مثل معارك في حرب أكبر لا تزال مموهة تحت عشرات العناوين.

هناك أحزاب سياسية معارضة وحزب حاكم، لكن الصراع لا يدور في أروقة برلمان منتخب أو مجالس محلية في المحافظات، بل في الشارع وفي جزئه الآخر ــ وربما الأهم ــ في العالم الافتراضي.

وثمة حكومة قائمة لكنها غائبة تماماً عن المشهد، لا بسبب غلبة التكنوقراط عليها، بل لأنها ليست صاحبة قرار وإنما حكومة تدابير يومية.

وثمة وزير للخارجية، لكن ليست هناك سياسة خارجية مصرية واضحة المعالم. وثمة وزير للاقتصاد، لكن لا توجد خطة اقتصادية واضحة المعالم للنهوض وإعادة إطلاق عجلات الاقتصاد المصري.

ثمة وزير وحيد ناشط في هذه الحكومة هو وزير الداخلية، لأن الوضع حكم بأن تكون الشرطة المصرية في حالة استنفار دائم، وأداة لحركة استقطاب حادة تعيشها مصر.

وثمة وزير واحد فقط يبدو على مسافة واضحة (تعبير مخفف وملطف للوقع الثقيل لمفردة بعيد) من الحكومة ومؤسسة الرئاسة، هو وزير الدفاع الذي يدير مؤسسة ضخمة وعريقة، ويبدو مثل حَكَمٍ يخضع لامتحان الصبر بين فرقاء متنازعين.

وثمة عشرات المحطات التلفزيونية، ومثلها وأكثر من الصحف، وضعفاها على شبكة الإنترنت، لكن يصعب القول إن حرية التعبير في أفضل أحوالها، أو إنها تضبط إيقاع الصراع السياسي.

والتساؤل الذي طرحه وما زال يطرحه الكثيرون: ألا يمكن أن يسير الصراع السياسي في مصر ضمن الأطر السياسية المعروفة وبشكل مقنن وسوي، بعيداً عن معارك الشوارع؟ بمعنى آخر؛ ألا يمكن أن ينتظر خصوم الرئيس المصري وخصوم الإخوان المسلمين الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2016، لكي يسقطوا الرئيس وحزبه عبر صناديق الاقتراع؟

على نحو ما، فإن هذا السؤال هو الذي يشتت معسكر معارضي الرئيس المصري والإخوان المسلمين، بكل أطيافهم وانتماءاتهم السياسية، وليس أدل على ذلك من التباين في الرأي الذي يطرأ على معسكر المعارضة عندما يتعلق الأمر بالانتخابات، البرلمانية على وجه أخص.

فما بين تفاؤل شديد (يحركه الاستياء في الشارع) بإمكانية تحقيق المعارضة فوزاً يعطيها ثقلاً سياسياً، وما بين تشاؤم يصل إلى حد اليأس من إمكانية تحقيق ذلك، يعكس انقسام مثل هذا معضلة أخرى، هي حدود الثقة في القدرة على خوض انتخابات نزيهة.

لعل هذا يبدو تعبيراً دبلوماسياً وملطفاً للغاية، لقلق أكبر هو الثقة في نوايا الحكومة في تنظيم انتخابات نزيهة، أي بعبارة أخرى «الثقة في قواعد العمل السياسي»، في ظل الحكومة التي يهيمن عليها الإخوان المسلمون. والسؤال المنطقي والمهم الذي سيتبع مثل هذا الاستنتاج: لماذا أصبحت المشكلة تتعلق بالثقة؟

هنا بالضبط، تأتي مسؤولية الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي.

فمن حالة الارتباك في أداء الرئيس وعدم وجود مشروع أو برنامج اقتصادي واجتماعي ملموس، إلى الصراع مع مؤسسة القضاء المصري، واختزال الديمقراطية بشكل فج في مفهوم الغلبة العددية فقط، ومساعي الهيمنة على جهاز الدولة، وكأنها المرة الأولى والأخيرة التي يصل فيها الإخوان إلى الحكم وأدوات القسر، وصولاً إلى معارك الشوارع مع الخصوم.. لم يفعل الإخوان المسلمون سوى «تغييب قواعد اللعبة».

حرف «الباء» في كلمة «تغييب» ليس خطأ إملائياً إذا كان الظن أن المقصود هو «تغيير» قواعد اللعبة.. كلا، ليست هناك أية قواعد للعبة في مصر، وهذه هي المعضلة.

في فبراير الماضي، تساءلت هنا في هذا المكان: «ماذا لو أن الإخوان المسلمين بادروا إلى إرساء أسس استقرار سياسي عوضاً عن السعي لإحكام قبضتهم على السلطة؟» (راجع: باب الخروج إلى المستقبل البيان، 5 فبراير 2013).

إن مقاربةً مثل تلك لا يقدم عليها سوى أولئك النفر من بناة الأمم الذين يتمتعون برؤى بعيدة المدى، لكن من الواضح أن الإخوان المسلمين لم يختاروا مثل هذه المقاربة، بل سعوا لإحكام قبضتهم على السلطة، وهذا بالضبط ما دفعهم لا لتغيير قواعد اللعبة فقط، بل تغييب أي قواعد للعبة.

فالتاريخ لم يسجل مثلاً أن دولة قد تخلت عن مهمتها السيادية الأولى وهي حفظ الأمن، وحولتها للناس أنفسهم لكي يطبقوا القانون وفق ما يرونه.

ليست هناك قواعد للعمل السياسي أو الصراع السياسي في مصر، لا مرجعية لحرية التعبير ولا لحقوق الإنسان، ولا لأي مرجعية دستورية أو تشريعية.

فكل هذه المنظومة التي تعارف عليها المصريون واحتكموا لها حتى في سنوات الاستبداد، أصبحت نسبية وخاضعة للتأويل على أكثر من وجه، حسب الضحية والجاني في أي صدام يحدث في الشارع، ولكل طرف قاموسه وتعريفه الخاص لحقوق الإنسان وللتعدي والانتهاك، وأصبح للجريمة أكثر من تعريف.

وبدلاً من المراجعات وإعادة النظر والتصحيح في منعطفات عدة شهدتها مصر بضحايا كثر، تتواصل المكابرة والأخطاء وكل أشكال المكر البدائي الذي حول الصراع السياسي إلى نزاعات شارع، على طريقة منازعات الأحياء في العصور الغابرة بمكائد تنم عن مكر بدائي، آخر فصولها هو ما جرى الجمعة الماضي 23 مارس أمام مقرات الإخوان في المقطم والمدن المصرية الأخرى.

هكذا، فعندما يتضافر الأداء السيئ للحكومة ومساعي الهيمنة من قبل الإخوان، والغموض التام حيال المستقبل وارتهان البلد لمعارك الشوارع فحسب، فإن هذا ليس له من معنى سوى «الخداع البصري». مشهد مليء بالتضليل والمؤشرات الخادعة، يشعر به كل مصري ومصرية، لأنهم يدركون تماماً أن اللعبة أو الصراع السياسي أصبح «لعبة من دون قواعد».

 

Email