صديقي والعقاد وقصة الحب الفاشل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لي صديق سقط في هوى الكاتب الكبير عباس محمود العقاد إلى حد الهوس، منذ كنا صغاراً نحبو نحو المعرفة ونتلمسها بقروش قليلة، وقرأ سيرته الذاتية الشهيرة "أنا" أكثر من عشر مرات، وحفظ مقاطع منها عن ظهر قلب، خاصة تلك التي صور فيها "العقاد" نفسه رجلاً مختلفاً عن بقية البشر، لا يعرف الضعف الإنساني إلى عقله ومشاعره سبيلاً!

وكلما قابلنا صديقي يردد بأعلى صوته كما لو أنه يهتف: كل الناس إلا عباس. وهي عبارة كان أصحاب العقاد الصغار وجيرانه في مدينة أسوان التي ولد فيها وعاش أيام صباه، يصفونه بها من فرط "جبروت شخصيته" منذ طفولته!

وكان صديقي يروي دائماً حكايات عن العقاد، مثل الناشر الكبير الذي جاءه متأخراً عن موعده ربع ساعة، فرده ولم يتعاقد معه، رغم الإغراءات المالية الشديدة التي عرضها عليه.. الحبيبة التي شك في حبها له فقاطعها، وظلت تطرق بابه بيديها حتى أدمتها دون أن يرق قلبه لها.. وهتلر الذي عاداه وكتب ضده، بينما جيوشه على أبواب الإسكندرية قادمة غازية قبل أن تخسر معركة العلمين.. وملك مصر قبل ثورة يوليو، الذي تحداه علناً تحت قبة البرلمان وسبه لأنه لا يحترم الدستور..

ورويداً رويداً وجدت صديقي يتلبس شخصية العقاد، يبتعد عن الهذار لأنه ضعف، لا يتسامح مع أي إنسان أخطأ في حقه ولو دون قصد لأن التسامح ضعف، والحب أيضاً ضعف، والتواضع ضعف، واستبدل بشخصيته المرحة الحبوبة البسيطة، شخصاً جاداً صارماً عابساً، منطوياً، وكلما سألناه: ماذا بك؟! يسألنا بدوره: هل تعرفون من هو البطل؟!

نرد: الذي يواجه الخوف وقلبه حديد ويحارب بقوة دون وجل! فيسفه رأينا قائلاً: تعريف ساذج دارج وشائع بين العامة.. البطل في الحرب أو القتال ليس بطلاً، هذه بطولة هو مجبر عليها حتى لا يُقتل وتستند إلى غريزة البقاء، والغرائز نقيض السمو الإنساني الذي يمثله "أنا الأعلى"!

فنسأله: وما تعريفك أنت للبطل؟! يجيب: العقاد يقول إن البطل هو ذلك الشخص الذي يلوي عنق ظروفه ويسيرها وفق مشيئته وإرادته، الحرب مجرد لحظة أو فترة في عمر الإنسان، لكن الحياة بظروفها المتغيرة والمتقلبة "حالة دائمة"، والبطل هو الذي يمسك برقبة هذه الظروف في يديه، أو يعمل على الإمساك بها ولا يسمح لها أن تكسره أو تهزمه أو تحبطه أو تضعفه!

بدا لنا التعريف جميلاً ومثيراً ودافعاً.. لكننا لم نرض عن تحول شخصية صاحبنا، إذ زادت خشونته وصرامته بعد أن دخل الفيلسوفان الألمانيان الشهيران "نيشته" و"شوبنهاور" إلى حياتنا، ورحنا نقرأ نظرية الإنسان "السوبرمان"، والإرادة الفردية والإرادة الجماعية، وعرفنا من أين استقى العقاد تعريفه عن البطولة..

تغرب صديقنا عن نفسه تماماً، وعاش شخصية العقاد كما رسمها له خياله، ملونة ببعض الرتوش المكتسبة من إنسان نيتشه "السوبر" وتعاسة شوبنهاور المكتئب! وظل على هذه الحال، إلى أن وقعت في حياته "حادثة" غيرت طباعه..

كان صديقي له جار عرفه زمناً طويلاً، ووصفه لي بأن أحلامه عريضة وطموحاته لا حدود لها، ويتوسم في نفسه قدرات ومواهب فذة، وكان يكتب شعراً، هو أقرب إلى خواطر نثرية، ويعشق فتاة لعوباً أعجبتها خواطره العاطفية عنها وتفوقه في دراسته، دون أن تمنحه حبها.. وفجأة اكتشف حقيقة "الفتاة"، فارتبك وتوتر وعاش أياماً صعبة!

وذات مرة دار حوار بينهما عن الحب، فنهره صديقي وتحدث عن الإرادة التي تقهر المستحيل، والحب الذي يضعف النفوس ويزلزلها ويحيل من يقع تحت سطوته إلى "كائن هش".. فإذا بالجار الواقع في حب فاشل ينفعل عليه ويسبه!

لم يرد صديقي لكنه قطع علاقته به..

سألناه: جيرة وصداقة 12 سنة تنتهي في خطأ؟!

رد بحدة: هذا سلوك همجي.. والخطأ الأول هو الخطأ الأخير..

ومرت ثلاث سنوات في غمضة عين، وزارني صديقي يوماً وهو في غاية الحزن والبؤس. سألته: ما الخطب؟! قال في كلمات منكسرة: أنا مجرم سافل!

أدهشتني كلماته، صديقي لا يمكن أن يرتكب حماقة، العقاد يحصنه من الوقوع في الزلل ونيتشه يدله دوماً إلى الطريق الوعر ليجتازه دون ألم أو خطيئة!

وأكمل: هل تذكر جاري فلان؟.. لقد دمرته قصة الحب الفاشلة. سألته: وما ذنبك أنت؟! أجاب: بعنادي وتكبري وغروري تخليت عنه منذ سبني قبل ثلاث سنوات، تركته في لحظات عصيبة دون أن أقف بجانبه، أشد أزره وأعيده إلى حالته الطبيعية، تركته وأنا صديقه الوحيد، دون أن أغفر له خطأً تافهاً يحدث ألف مرة بين الأصدقاء كل يوم، لم أتسامح معه فشاركت في ضياعه!

قلت: لا تحمل نفسك أكثر مما تحتمل! قال: هذه جريمة يجب أن أعترف بها، وجودي بجانبه في أزمته كان سيغيّر أشياء كثيرة، كنت صديقه الوحيد ولو احتضنته ما وصل إلى هذه النهاية.. التسامح ليس ضعفاً بل هو كل النبل، التواضع ليس ضعفاً بل هو كل النبل، الحب ليس ضعفاً بل هو كل الحياة!

وعرف صديقي من يومها معنى التسامح وعاش به..

 

Email