الحمى.. بعبع مخيف أم حزام أمان؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد تكون من كوكب آخر إذا لم تصب بالحمى قط، فمن الصعب خلو سجلك الصحي من زيارة للطبيب سببها الحمى. وإذا قمت بزيارة لأي منشأة صحية الآن، ستكون الحمى حاضرة بكل قوة في سجل المواعيد. لكن هل يعقل أن يكون عرض الحمى ذو الحضور اليومي الشائع في المنازل والعيادات، خطيرا لدرجة الهلع التي تحدث للمحيطين بالمريض كما هو السائد في مجتمعاتنا؟

جسم الإنسان يعمل بمنظومة متناغمة، ووفق معزوفة بإشراف المايسترو "الدماغ"، وقد سخر رب العالمين مؤشر "الحرارة" لإخبار الجسم والدماغ عند وجود أي خلل في بيئة الجسم الداخلية. لكن كيف يعمل هذا المؤشر؟

عند موت أي خلية في جسم الإنسان لأي سبب، تخرج مواد خاصة من الخلية المحتضرة وتقوم بإيقاظ الجهاز المناعي، فتتحرك خلايا الدفاع ويزيد تدفق الدم لمنطقة الخلايا الميتة. لكن أهم عمل يقوم به الجهاز المناعي، هو رفع درجة حرارة الجسم عن طريق إعادة ضبط مؤشر الحرارة. الحرارة العالية بدورها تلعب دورا مهما جدا في محاربة الجراثيم، من بكتيريا وفيروسات، وطردها في أسرع وقت خارج الجسم.

الخوف غريزة فطرية، بدونها لا تستقيم الحياة، لكن أيضا كثرتها تحيل الحياة إلى جحيم. لنلقِ نظرة بسيطة على مجتمعنا ونسأل: هل نخاف من الحمى؟ معظم الإجابات ستكون "نعم"، لأن الحمى تؤثر على نمو الطفل؛ تدمر الكبد، تتلف الدماغ، تصيب الجسم بالشلل، وتستمر قائمة مسببات الخوف الخرافية من هذا البعبع!

لن أستطيع تغيير المفاهيم والموروثات الاجتماعية المغلوطة عن الحمى، في مقال واحد. نعم، أنا أب ولدي أطفال، وينتابني القلق عند إصابة أحدهم بالحمى، لكن هناك فرق بين القلق وبين الخوف والهلع. الحمى ليست مرضا، وهذه الحقيقة مهمة جدا. دور الحمى تماما مثل دور صفارة الإنذار بوجود خطب ما في الجسم. الصعوبة عند غير المتخصصين، تكمن في كيفية التفريق بين ما إذا كانت الحمى المصاب بها الطفل، على سبيل المثال، سببها التهاب حاد أم خروج الأسنان. الهدف ليس منع زيارة الطبيب، لكن التعامل مع الحمى بهدوء، والمحاولة أولا بخافضات الحرارة وتهوية الجسم، ومن ثم اللجوء إلى العيادة.

هنا يجب التأكيد مرة أخرى، على أن الحمى لها دور دفاعي مهم جدا. تقوم الحرارة العالية بطبخ الجراثيم (مثل الميكرويف)، وإيقاف تأثيرها السلبي. وهناك حالات كثيرة تكون فيها الحمى كافية لقتل وطرد الفيروسات والبكتيريا، دون الحاجة لأي مضاد، مثل حزام الأمان.

في الواقع وبإجماع جميع الدراسات، الحمى بريئة مما ينسب لها، وأقصى تأثير ممكن هو حالة الهذيان التي قد تصيب المريض، وفي حالات نادرة جدا تكون الإصابة بالجفاف الشديد. لكن التعب المصاحب لجسم المريض بالحمى، يستدعي استخدام خافضات الحرارة.

الاستثناء الوحيد والذي يستدعي خفض حرارة المريض في أسرع وقت، هو لحالات "التشنج الحراري". فبعض الأطفال عند إصابتهم بالحمى، تدخل أجسادهم في نوبة تشنج لدقائق، ويصاحب التشنج خروج اللعاب من الفم وتيبس الأطراف. هذا التشنج الحراري، وبجميع الأدلة العلمية، لا يصيب الدماغ بأي تلف.

ولا يعتبر من "الصرع" وليس خطيرا أبدا. ما زالت الدراسات تبحث سبب هذا التشنج غير المعروف حتى الآن، لكن بعضها وجدت قابلية وراثية عند بعض العوائل أكثر من غيرهم. أيضا بعض السلوكيات الاجتماعية قد تزيد من حدوث التشنج، وأخص بالذكر قيام بعض الأمهات بربط الطفل المحموم بغطاء حتى "يعرق"، على حد تعبيرهم وتنزل الحمى!

ما العمل؟ نسرع بالطفل راكضين لأقرب عيادة أم نتصل بالإسعاف؟! كل طفل يتميز بسلوك خاص وشخصية مختلفة، ونفس الأمر ينطبق على الأعراض المرضية مثل الحمى. معرفة الوالدين بردة فعل الجسم لطفلهم تجاه الالتهابات، أفضل مقياس لاتخاذ اللازم. فإذا كانت حرارة طفلك بطيئة الصعود، لا تخف وراقب وتأكد من وجود خافضات الحرارة في المنزل، وإذا كانت حرارة طفلك سريعة الصعود، لا تجزع فالدماغ لن يذوب والأعضاء لن تتآكل، لكن تأكد من وجود بنزين كاف في السيارة!

 

Email