في قلب الهاوية المالية الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بداية، من الضرورة بمكان تحديد ماهية الهاوية المالية، ولماذا هذا المصطلح الذي يغني منطوقه عن تعريفه، ذلك أن الهاوية المالية تعني ببساطة شديدة عدم قدرة الاقتصاد على تلبية حاجات التوازن الطبيعي بين عناصره، وآية ذلك الانكشاف المالي الراهن في الولايات المتحدة.

والمتمثل في الديون التي بلغت مئات التريليونات المترافقة مع عجز واضح عن مجابهتها بالاقتراض الذي لم يعد إليه من سبيل، أو بالمزيد من إغراق السوق المالية برصيد متزايد من العملة المطبوعة خارج التناسب الجبري مع الموجودات الثابتة والمتحركة في الاقتصاد، بوصفه القانون الناظم لإصدار العملة.

فالمعروف تقليديا أن العملة لا يمكنها أن تحقق شرط توازنها المرصود في الوظائف التلقائية لها، إلا باحترام قوانينها الداخلية، وأبرزها أن تكون معيار تبادل بين السلع، ووسيلة ادخار، ومخزن قيمة حقيقية، وبالاستتباع قيمة ائتمانية تحقق الثقة والمصداقية.

هذه الشروط تنتفي فيما إذا تم إصدار العملة لمجرد إغراق السوق بالمزيد منها، ومن هنا تنشأ ظاهرة التضخم الخطيرة، التي ترافقت في الحالة الأمريكية مع ما سمي الفقاعة المالية؛ أي تداول العملة وفق رخصة مفتوحة للعرض والطلب، دون تحقيق الهدف من ذلك التداول، مما أفضى إلى تجارة مالية صرفة كان من نتائجها الماثلة إفقاد العملة الأمريكية قيمتها الفعلية.

هذه المقدمات بجملتها، تعبر عن معنى الهاوية المالية، فالاقتصاد الأمريكي المتضخم، يتكلس لعدم توفر وقود الضخ المالي المطلوب، وهو بهذا المعنى أشبه ما يكون بطائرة عملاقة تفتقد وقود الطيران، وتقبع في مطار نهايتها المحتومة.

المراقبون الماليون، وسدنة الاقتصاد الرأسمالي في طوره الأمريكي الأكثر تطرفا.. يعترفون بأن الولايات المتحدة مطالبة بانكماش قسري وحاد، حتى يعود التوازن المالي، وحتى يتم ردم الهوة السحيقة التي سيقع فيها الاقتصاد إن استمرت الأمور على ما هي عليه.

ومن المعروف سلفا أن مصفوفة المقترحات الإصلاحية تبدأ بتقليص الإنفاق، وإيقاف إصدار العملة، ومباشرة نظام ضريبي جبائي أكثر فاعلية، وصولا إلى تغيير أنماط الاستهلاك، وما يتبعها من فجور مالي طال الغالبية العظمى من الناس، حيث لعبت سياسات الإقراض المفتوح، وعدم الاحتساب لقوانين التنمية المستدامة، وتغول بورصة "وول ستريت" ومجمع الصناعات العسكرية.. هذه العناصر لعبت بجملتها أدوارا سلبية، شاهِدُها ما نراه اليوم من فداحة.

هذه الحالة ليست أمريكية فحسب، بل ترمي بظلال وافرة على مختلف الاقتصادات العالمية، وخاصة تلك الاقتصادات التيٍ سارت على درب روشتات صندوق النقد الدولي.

والبنك الدولي للتنمية، واتفاقية "الغات" للتجارة والتعرفة الجمركية، ذلك أن هذه المنظومة من المؤسسات المالية والتجارية والاستثمارية الدولية، نابعة أصلا من مركزية الدولار القائمة منذ اتفاقية "بريتن وودز" النقدية.. تلك التي تواضعت في تطبيقاتها طوال فترة الحرب الباردة، ثم استأسدت بعد "الانهيار الحر" للاتحاد السوفيتي وكامل المنظومة الاشتراكية الدولية التي كانت تدور في أفلاكه الواسعة.

بالترافق مع الانتصارات السياسية المتتالية لليمين الجمهوري المحافظ، تموضع الاقتصاد الأمريكي في مربع الوهم الأكبر، واندفع أنصار إدارة المستقبل بالحرب صوب متاهة جنونهم الكبير، حيث باشروا تسريع تطبيق سياسات المبادأة الاستراتيجية الدولية، وامتشقوا حسام حرب كونية متعددة الأذرع،.

وتقدموا بخطى ثابتة نحو سياسات التشبيك المالي المقرون بالقروض العقارية المترفة، واعتبروا الميزانيات المحلية للولايات الأمريكية، مجرد أرقام مالية قابلة للتدوير الحر في بورصة المال المجرد، كما ورد بنص العبارة في البرنامج الانتخابي الرئاسي قبيل رئاسة بوش الابن.

كل هذه السياسات المندفعة بعقلية الظفر والنصر، ساهمت في فتح حفرة عميقة، وهوة تتسع تباعا، لتطالب صناع القرار في الولايات المتحدة بضرورة إعادة النظر في كامل الآليات السائدة. لكن هذا الأمر لا يرضي ذوي الرؤوس الساخنة من عتاة اليمين المحافظ.

فهؤلاء ما زالوا يعتقدون أن الرأسمالية في نموذجها الأمريكي المتفرد، هي الخيار الوحيد والأوحد لاستمرار الولايات المتحدة بوصفها الاقتصاد الأكبر في العالم، لمجرد كونها القوة الأكبر عسكريا في العالم! ومن الغريب حقاً أن يتمترس هؤلاء في نموذج طرازهم الذهني وهم يرون بأم أعينهم تسارع النماء والفعالية الدولية في الاقتصادات الآسيوية، وخاصة الاقتصاد الصيني الأكثر نماء وفتوة.

الفقاعة.. الهوة.. التضخم.. المال للمال.. التشبيك المالي.. كلها توصيفات لحقيقة واحدة اسمها الاقتصاد المريض الذي يحتاج إلى إسعاف عاجل، وهذه حالة أمريكا بالمعنى الأكثر حدة، ولكنه إلى ذلك يطال جزءاً هاما من الاقتصادات الأوروبية والعربية، ناهيك عن تمدده الطبيعي في البلدان الأكثر فقرا وحاجة.

 

Email