شباب الانتفاضات والإصلاح المؤجل

ت + ت - الحجم الطبيعي

تخوض القوى الشبابية العربية اليوم معركة شرسة، ضد ثقافة الاستبداد والقوى الظلامية وما تبقى من ركائز الأنظمة العربية المنهارة. وهي تحتاج في نضالها إلى مقولات علمية نشرتها نخب ثقافية عربية وعالمية، تصدت لكل ما هو غير عقلاني في الثقافة السائدة، وتناولتها بالنقد البناء من موقع التغيير الشمولي.

دعا بعض قادة الانتفاضات إلى التفاعل الإيجابي بين المقولات النظرية والممارسة اليومية، وكشفوا زيف الإيديولوجيا الشعاراتية التي تصدر عن قوى سلطوية بشرت بإصلاح النظام السابق، لكنها لم تقم حتى الآن بأي تغيير جذري في البنى السياسية والاجتماعية والثقافية التي أوصلتها إلى السلطة، وتعمل على إبقاء الوعي المتدني للجماهير الشعبية.

دعا شباب الانتفاضات إلى تغيير الواقع العربي المتردي تغييرا شاملا لصالح القوى المنتجة، وتأمين الرغيف مع الكرامة، وضمان الحريات الأساسية لجميع شرائح المجتمع. لكنهم تناسوا أن فشل التغيير على المستوى العربي، ارتبط وثيقا بفشل الحداثة العربية على مختلف الصعد، بعد أن تحولت إلى حداثة شكلية قادت إلى انهيارات لا حصر لها.

ونتيجة القمع المتواصل منذ عقود طويلة، أسلمت الجماهير العربية مصيرها إلى قيادات سياسية، دينية وعسكرية ومدنية، تفتقر إلى الكاريزما الشخصية، وإلى الرؤية الثقافية الواضحة. كانت تلك القيادات تروج لشعارات سطحية، قادت في الممارسة العملية إلى تدمير الطبقة الوسطى، بعد أن عممت الفقر، والبطالة، والجهل، ودمرت نسبة كبيرة من الطاقات البشرية والموارد الطبيعية العربية.

كان القمع السلطوي في طليعة الأسباب المباشرة لانتفاضات عربية، كانت تفتقر إلى مقولات علمية معرفية، واكتفى بعض فصائلها بشعارات إيديولوجية ودوغمائية.

بيد أن عصر العولمة يشهد تبدلات سريعة، تطال العالم في جميع دوله وشعوبه. وقد طوّر الشباب المنتفض أدواتهم المعرفية، بالتزامن مع النضالات الشعبية لتعزيز فرص التغيير الشامل، المستند إلى معرفة دقيقة بالتبدلات التي تعيشها شعوب العالم في المرحلة الراهنة، وطالبوا بتغيير النظم السياسية العربية بالطرق الديمقراطية السلمية، بعد فشل الانقلابات العسكرية وكل أشكال القمع السلطوي على امتداد العالم العربي.

كان دعاة التغيير بحاجة ماسة إلى رؤى ديمقراطية متكاملة، من خلال تعرية الصراع الاجتماعي المتزايد حدة على الساحة العربية، للرد على النظام السياسي الطائفي أو القبلي، الذي نجح في تزييف الوعي الشعبي وفي إعادة إنتاج أدواته ومؤسساته السياسية والتربوية والإدارية، على أسس طائفية أو عائلية يصعب اختراقها.

فالوعي الاجتماعي السليم هو صمام الأمان لقوى التغيير، خاصة الشبابية منها. وهي بحاجة إلى امتلاك وعي نقدي للواقع الاجتماعي، واستنباط الأدوات المعرفية القادرة على تغييره نحو الأفضل. وذلك يتطلب بناء مجتمع المعرفة العربي، القادر على إدارة الاختلاف والتمايز بصورة ديمقراطية، كشرط أساسي لإنتاج معرفة دقيقة بالواقع العربي، واقتراح الحلول العقلانية لتغييره.

والنقد الإيجابي سلاح أساسي لتعرية زيف المقولات الطائفية والقبلية في الوطن العربي، لأنها نتاج ثقافة تلفيقية تبثها السلطة السياسية المسيطرة، التي تحاول تأبيد سيطرتها من خلال إدخال وعي مزيف يمنع القوى الشبابية من تحقيق التغيير الشامل.

لذا نجحت القوى التسلطية في تجديد ثقافتها التلفيقية، فبدا الفكر العربي المنتفض وكأنه أصيب بالبلادة الذهنية، بسبب تكرار كم هائل من المقولات الدوغمائية التي أدت إلى تراجع الإنتاج الثقافي في الدول المنتفضة، ومحاربة المعارضين المتنورين، ومنع تداول أعمالهم، وحرمان الأجيال الشابة من الاستفادة منها.

لقد نظر مثقفو السلطة إلى المقولات الدينية على أنها حقيقة مطلقة، بسبب تواجدها الكثيف في مؤسسات المجتمع والدولة، ودورها البارز في تنشئة الأفراد وتشكيل الوحدات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية، التي تتكون منها المجتمعات العربية.

ودخلت القوى الشبابية المنتفضة في صراع مكشوف مع القوى التسلطية، الساعية إلى التفرد والهيمنة. وتناست تلك القوى التي حكمت بعض الدول المنتفضة، شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ودعت الجماهير الشعبية للدفاع عن الركائز التسلطية الموروثة.

وأدرك الشباب العربي المنتفض أنه بحاجة إلى امتلاك ثقافة عقلانية، تستند إلى كل ما هو إيجابي في الثقافة العربية، لتوحيد القوى العربية المناهضة لكل ما هو طائفي وقبلي وعنصري ومناطقي في العالم العربي.

وتأكدوا من أن الثقافة العربية السائدة، في شكلها الطائفي والقبلي، تساعد على تأبيد الأنظمة الاستبدادية المسيطرة على الشعوب العربية، وأن الإصلاح الجذري بحاجة إلى ثقافة عربية عقلانية جامعة، لتغيير أنظمة استبدادية تشكل عقبة أساسية أمام التغيير الشمولي، لا بل تؤسس لحرب أهلية في أكثر من دولة عربية.

وكانت المرحلة التي سبقت الانتفاضات الشبابية، قد شهدت انزلاقات عدة للفكر الليبرالي والعلماني والديمقراطي العربي، إلى مواقع مثقفي السلطة الاستبدادية. ولم تنجح في تطوير علاقة الإنسان العربي بالدولة، كمواطن حر في دولة ديمقراطية عصرية، تعترف بحقوقه الأساسية التي يضمنها القانون وترعاها المؤسسات المدنية الحديثة.

لذلك عمل شباب الانتفاضات العربية منذ البداية، على إسقاط ركائز القمع والاستبداد ومنع تجددها، فحظوا باحترام قل نظيره في تاريخ العرب المعاصر. وتتوقع الجماهير العربية أن يستمر الحراك الشبابي، ليتحول إلى انتفاضات شعبية عربية شاملة.

ختاما، تحالفت القوى الأصولية مع قوى الثورة المضادة، والقيادات العسكرية، وزعماء القبائل والطوائف، ورموز الفساد والإفساد والمضاربات المالية والعقارية، وأصحاب الصفقات المشبوهة، لتوقف المد الشبابي والجماهيري الذي هدد مصالحهم السياسية والطبقية بالخطر الداهم. وما زالت القوى التسلطية تحاول إعادة إنتاج تلك الركائز.

وتقف القوى الشبابية العربية المنتفضة اليوم، وجها لوجه ضد قيادات سياسية تسيطر على مؤسسات الدولة وتسعى لاستمرار الدولة الريعية كنظام يخدم مصالحها بالدرجة الأولى، وهي توظف الدين في الثقافة السائدة كإيديولوجيا لتشويه الوعي الوطني والاجتماعي لدى الجماهير العربية. لكن الوعي الديني المؤدلج، لم ينتج في الدول العربية المنتفضة حتى الآن سوى نظام سياسي مفكك، ودولة قمعية تتخفى وراء حجاب سياسي، لم يعد قادرا على إخفاء الوجه البشع للطبقة السياسية المسيطرة.

 

Email