كيف اختزل الشعب الفلسطيني إلى هذا الحد؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع دخول القوات الإسرائيلية الشطر الغربي من بيروت في اجتياح 1982، كان أول مكان توجه إليه الجنود الإسرائيليون هو "مركز الأبحاث الفلسطيني"، حيث سرقوا مئات الآلاف من الوثائق ونهبوا محتويات المركز. لم يذهبوا إلى أي مكان آخر، ولم يبحثوا عن مخازن سلاح أو ما شابهها.

لقد كرروا الأمر في اجتياح جنين عام 2002، عندما ذهبوا بالتوازي إلى مكانين أساسيين ونهبوهما فور اجتياح جنين ورام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، ودائرة الأراضي حيث سجلات الطابو.

لا تسترعي مثل هذه الوقائع انتباه الكثير من العرب في العادة، فالذين كانوا يكتبون يوميات الاجتياح في 1982 و2002، لم يكتبوا شيئاً عما يمكن أن يعنيه نهب مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت صيف 1982، ولا نهب وزارة الثقافة الفلسطينية بعد عشرين عاماً. فالهدف يبدو تجريدياً إلى أبعد حد: محو الذاكرة الفلسطينية.

في نضالهم المرير والشرس، خاض الفلسطينيون معركة شاملة بكل معاني الكلمة، فعدا النضال المسلح، عمد الفلسطينيون بجهود حثيثة وجبارة، إلى مقارعة إسرائيل سياسياً عبر العمل السياسي، الذي كان يسير بالتوازي مع العمل الفدائي في كل مراحله، إضافة إلى الثقافة والفنون وإدارة مؤسسات اقتصادية قومية.

لكن في جانب مهم وحيوي لشعب يتعرض للاقتلاع من أرضه ومن التاريخ، أسس قادة الثورة الفلسطينية الأوائل لواحد من أهم الأسلحة في مواجهة إسرائيل، وهو: البحث العلمي.

هكذا، ومن بدايات متواضعة ومبانٍ أكثر تواضعاً، تطور مركز الأبحاث الفلسطيني الذي كان يديره أكاديميون فلسطينيون على مستوى عالٍ، وساهمت فيه أسماء بارزة من عشرات الأكاديميين الفلسطينيين البارزين في المنفى، لكي يصبح مركز أبحاث بارزا في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بالمعنى الأشمل للكملة، وثاني أهم مركز بحث علمي في البلدان العربية، بعد مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية في مصر.

كان هذا يجري ضمن مسار نمو طبيعي للثورة الفلسطينية، التي ولدت من رحم اليأس تقريباً منتصف ستينات القرن الماضي. والثورة التي وصفت بالإرهاب في بداياتها، سرعان ما نالت اعتراف العالم بأسره، لا بمقعد مراقب في الأمم المتحدة فحسب، بل باعتراف العالم بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. ولم يكن العالم ليخطو خطوة مثل هذه، لولا أن الثورة التي وصفت يوماً بالإرهاب أثبتت جدارة سياسية وأخلاقية عالية.

 لم يكن الأمر متعلقاً بالقطيعة مع أعمال مسلحة من قبيل خطف الطائرات فحسب، بل بنضال شامل بكل المقاييس: عسكرياً وسياسياً وثقافياً.

هكذا كانت البندقية لا تزال في اليد، ولكن بدلاً من إرسال بضعة فدائيين للخارج في حرب أشباح مع "الموساد"، راح الفلسطينيون يرسلون الوفود الفكرية والثقافية والفنية والكوادر السياسية إلى عواصم العالم، ليخوضوا معركة من نوع آخر مع إسرائيل. فالمعركة ليست قاصرة على صد كتائب الجيش الإسرائيلي في أرض المعارك العسكرية فحسب، بل معركة سياسية وفكرية وثقافية شاملة؛ أي معركة وجود.. في أحد تفاصيلها المهمة، انتعش البحث العلمي والثقافي في تلك الفترة، التي كانت فيها الثورة الفلسطينية تعمل بمقاربة شاملة للنضال ضد إسرائيل.

لكن هذا تغير تماماً منذ أن انكفأت الانتفاضة الأولى التي انطلقت عام 1987، وتوقفت تماماً عام 1990 مع دخول القوات العراقية للكويت. كان ذلك فصلا مظلماً ومؤلماً في التاريخ العربي عموماً، وأكثر الخاسرين فيه كان الفلسطينيون.

لا يتعلق الأمر بالوقائع واليوميات وتوثيق ما جرى منذ تلك اللحظة، لكن مع بروز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتصاعد الانقسام الفلسطيني وصولاً إلى الاحتراب، تغيرت مقاربة النضال الفلسطيني الشاملة تلك، ومعها وجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة حرب جديدة ضمن الحرب العالمية على الإرهاب.

ومعها اختفى الطابع الشامل للمواجهة مع إسرائيل، واختزل النضال الفلسطيني في حرب حددت إسرائيل والولايات المتحدة سلفاً طبيعتها وتعريفها: "الإرهاب".

أما المقارنة بين النضال الفلسطيني في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات، وبينه اليوم، فمن الممكن أن تحصي الكثير من الفوارق الناجمة، لا من تغير الأوضاع الدولية والإقليمية فحسب، بل من تغير طبيعة هذا النضال وانكفائه في حدود معينة.

إن للمراحل والزمن طبيعتها ومقارباتها بالتأكيد، لكن في أحد الفوارق المهمة يمكننا أن نشير إلى التراجع الكبير في البعد الفكري والثقافي في الصراع مع إسرائيل، الذي اختزل وحلت محله تعميمات خطاب ديني، أسهم في صعوده بالتأكيد في صعود قوى مثل حماس والجهاد الإسلامي على الساحة الفلسطينية، وتضخم صداه في محيطه العربي جراء صعود لقوى إسلامية مماثلة.

والملاحظة الأبرز (التي قد تبدو هامشية بل ولا معنى لها للكثيرين)، هي أن الأحزاب والقوى الإسلامية ليست لديها مراكز أبحاث، سواء تلك التي في فلسطين أو في أي بلد عربي آخر.

والمشكلة مع وجهة نظر مثل هذه، أن كثيرين سيعتبرون أنني أزعم أن مراكز الأبحاث هي الحل السحري أو السلاح السري الذي سيأتي بالانتصار.

لكن انظروا لمفارقة قد لا تخطر على بال؛ ففي الوقت الذي كان القادة الغربيون يصِمون القادة الفلسطينيين بالإرهاب في السبعينات والثمانينات، كان المثقفون الأوروبيون والجامعات الأوروبية يستمعون للمثقفين والمفكرين الفلسطينيين، وهم يقدمون للعالم وجهاً مغايرا وأكثر عمقا وتحضراً للشعب الفلسطيني.

لقد لعب المثقفون والمفكرون الفلسطينيون في تلك العقود، أدواراً مهمة لا في التعريف بقضية شعبهم فحسب، بل في دفع فئات عريضة من الأوروبيين، وعلى رأسهم نخب المثقفين والمفكرين، لتبني مواقف أكثر تقدماً حيال الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

لكن هذا اختفى تماماً منذ سنوات، ففيما كانت أسماء أكاديميين ومفكرين فلسطينيين مبرزين، مثل إبراهيم أبو لغد وإدوارد سعيد، وجوهاً بارزة للنضال الفلسطيني، لم يعد هناك من وجوه مماثلة، ويبدو المفكرون والمثقفون والأكاديميون الفلسطينيون مختفين تماماً من كل قنوات النضال الفلسطيني تقريباً.

وفيما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تقدم نموذجاً حياً لتمثيل الشعب الفلسطيني بشكل أشمل، بكل ما فيه، وفي سياق نضال شامل يجمع المقاتلين والمثقفين والأثرياء والفقراء والعمال والفلاحين والمرأة والطلبة، بات ضيق الأفق يعمق الانقسام الفلسطيني، إلى الحد الذي تم فيه اختزال الشعب الفلسطيني إلى "حماس" و"فتح"، بكل المقولات الدعائية المحيطة بهما.

 

Email