عرس فقر الدم

ت + ت - الحجم الطبيعي

ازدانت الحارة بتباشير الفرح، وكست الألوان الزاهية منزل العروس.. أيام قلائل ويأتي فارس الأحلام لتحقيق أغلى الأمنيات. لكن بقيت مهمة أخيرة على عاتق العروسين لإتمام إجراءات العقد الميمون، ألا وهي "فحوصات ما قبل الزواج الطبية".

تم أخذ عينات الدم من الطرفين، وخلال أيام معدودة ظهرت النتائج. انطلق العروسان للعيادة وأحاسيس الفرح تتصاعد في جنباتهما، فبعد أخذ النتيجة يستطيعان إبرام عقد الزواج والدخول في القفص الذهبي.

رحب الطبيب بالعريسين وتمنى لهما حياة سعيدة، وعلق على نتائج الفحص قائلا: "الحمد لله نتائج طبيعية، لكن فحص فقر الدم كشف أن كل واحد منكما حامل لصفة مرض الثلاسيميا أو فقر دم البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي هناك احتمال 25% لإنجاب طفل مريض، وحينئذ سيحتاج نقل دم طول الحياة".

الأوكسجين هو إكسير الحياة، ولكي يصل إلى كل خلية، تقوم أجسامنا بنقله في ثلاجات خاصة تعرف بـ"بالهيموغلوبين"، داخل عربات كرات الدم الحمراء. وقد تم تجهيز ثلاجات الهيموغلوبين بمادة حافظة هي "الحديد"، وأبواب سميكة "الغلوبين"، لمنع ذرات الأوكسجين من التفكك أو السقوط.

في مرض الثلاسيميا لا يستطيع الجسم تصنيع أعداد كافية من أبواب "الغلوبين". نتيجة لذلك تقل كفاءة كرات الدم الحمراء في نقل الأوكسجين، وتبدأ في التكسر، وتبدأ المعاناة.. مشاكل في النمو لعدم وصول كمية كافية من الأوكسجين، مشاكل في القلب والكبد لتجمع الحديد غير المستخدم والفائض فيها، التهابات متكررة.. لكن أهم وأصعب معضلة، هي حاجة مريض الثلاسيميا لنقل دم مدى الحياة، بمعدل مرة كل ثلاثة أسابيع، لتعويض التالف من الكرات الحمراء. لكن إذا عرفنا سبب هذا المرض الوراثي، نستطيع الوقاية منه بشكل كامل، وجعله في كتب التاريخ.

خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون في منظومة دقيقة، وجعل من كل شيء زوجين اثنين. نفس القاعدة تنطبق على فقر دم البحر الأبيض المتوسط، فبما أن كل ثلاجة هيموغلوبين تحتوي على بابين من "الغلوبين"، هناك ثلاثة احتمالات. في الحالة الأولى، يرث الفرد بابا سليما من الأب وكذلك من الأم، وبالتالي يتمتع بصحة وعافية في المظهر الخارجي، وتكون فحوصات الدم سليمة. في الاحتمال الثاني، يستقبل الشخص بابا سليما من الأب وبابا مريضا من الأم، أو العكس.. هنا يكون الشخص سليما ولا يعاني من المرض، لكن فحص الدم ينتج عن صفة "حامل للمرض"، كما هو الحال في العريسين. والاحتمال الثالث، عند وراثة نسخة مريضة من الأب ومثلها من الأم، وبالتالي إنجاب طفل مريض يعاني من جميع الأعراض المذكورة.

نرجع لأبطال القصة.. نستطيع وبحسبة بسيطة، أن نستنتج أن كلا من العريسين يحمل ثلاجات هيموغلوبين، تحتوي على باب سليم من الغلوبين وباب آخر غير سليم. إذن، هناك احتمالية 50% لإنجاب طفل "حامل للمرض"، و25% لإنجاب طفل سليم تماما، و25% لإنجاب طفل مريض بالثلاسيميا.

قد يقول البعض إن احتمال إنجاب طفل مصاب بالمرض، هو فقط واحد من كل أربع ولادات، فلماذا الترويع والتهويل من هذا المرض؟ المشكلة في الأمراض الوراثية أنها مبنية على احتمالات، وفي حالات كثيرة قد تسقط القرعة في كل حمل على إنجاب أطفال مصابين بالمرض الكامل!!

من الناحية العلمية، توجد طريقة واحدة للخروج من معاناة المرض ونقل الدم الأبدي، وهي زراعة نخاع العظم (مصنع إنتاج كرات الدم الحمراء). لكن الحديث ما زال مبكرا عن إمكانية توفره ونجاحه في كل حالة، حيث إن عدد الحالات المستفيدة حاليا قليلة.

إذن، الطريقة الوحيدة لمنع انتشار المرض هي ارتباط حاملي صفة المرض بطرف سليم فقط، وعدم تزاوجهم مع بعضهم البعض!

خرج العروسان من العيادة مصدومين من وقع الخبر، وهما يعتقدان أن هناك خطأ في التحاليل. لا يتذكر أي منهما قط تعرضه لنكسة صحية أو تعب، وكان مشهودا لهما بالصحة والعافية، فكيف يكون كلاهما حاملا للمرض منذ ولادتهما ولم تظهر أعراض الثلاسيميا عليهما؟ طبعا لن توجد أية أعراض، فالذين يحملون المرض لا يعانون من أي مشاكل صحية.

ما العمل؟ لقد طبعت البطاقات وتم حجز القاعات وتجهيزها، وكل خطط شهر العسل جاهزة، وطالما هناك احتمالية واحدة من أربعة فقط لإنجاب طفل مريض، فلعل وعسى تكون القرعة من نصيب إنجاب طفل سليم. انطلقت العائلتان إلى المحكمة لإتمام عقد القران، وفي الطريق التفتت العروس سائلة والدها: لماذا لم تسأل عن وجود صفة المرض في خطيبي عندما طلب يدي؟

أردف المعرس بسؤال آخر: هل فحصونا عن صفة الثلاسيميا عند ولادتنا؟!..

 

Email