في عولمة الاتصال والإعلام والثقافة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يرتبط تطور البشرية وازدهارها ارتباطا وثيقا بوسائل وقنوات الاتصال التي استعملها الإنسان وتفاعل معها عبر العصور والأزمنة. وهكذا عرف الإنسان البردى ثم الورق ثم الطباعة ثم اخترع التلغراف ثم الهاتف، ثم جاء عهد الإذاعة ثم التلفزيون وبعدها جاء عهد الثورة الاتصالية بمفهومها الحقيقي والكامل .

وذلك باستعمال الحاسوب الآلي، والأقمار الصناعية والفاكس واستعمل الإنسان أكثر من وسيلة لتخزين المعلومات ومعالجتها وإرسالها عبر الأقمار الصناعية في ثوان معدودة. والثورة الاتصالية بمفهومها الحديث ستؤثر لا محال في المعرفة وحجمها وقنوات توزيعها والسيطرة عليها. والصراع العالمي الذي ستشهده البشرية في القرن الحادي والعشرين سيكون صراعا حول من يملك المعلومة ويسيطر على صناعة الصورة وصناعة الرأي العام وصناعة المعرفة.

جاءت الثورة الاتصالية لتكرس تفوق الشمال على الجنوب ولتزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. والإشكالية المطروحة في الثورة الاتصالية هي أن الدول الصغيرة والفقيرة قد أقدمت على شراء التكنولوجية والوسائل والقنوات لتواكب التطور، لكنها عجزت عن إنتاج المعرفة والمادة الإعلامية التي توزع عبر هذه الوسائط التكنولوجية.

وهكذا فإنها وجدت نفسها مضطرة إلى اقتناء البرمجيات والمادة الرسالة والمحتوى- التي تبث وتوزع عبر الوسائل والتكنولوجيات المختلفة. والتناقض المطروح هنا هو أن هذه البرمجيات وهذه المادة التي تقبل معظم الدول في العالم على اقتنائها من حفنة من الشركات العالمية لإنتاج البرامج تحمل في طياتها قيما ومبادئ قد تتنافى وتتعارض مع قيم معظم الدول في العالم، وهذه السيطرة على الإنتاج تؤدي كذلك إلى عولمة الإعلام وعولمة الثقافة وتؤدي إلى السيطرة على الرؤى والقيم والمبادئ.

فالثورة الاتصالية أدت إلى ظهور فضاء إعلامي عالمي عابر للدول والقارات سواء عن طريق البث الفضائي المباشر أو الانترنيت، وهذا ما أدى إلى عولمة الإعلام والثقافة التي تعتبر نتيجة حتمية للثورة الاتصالية وللتطور المذهل في وسائل الاتصال والنقص الكبير في الإنتاج الإعلامي والثقافي على مستوى كل دولة. وبهذا تربعت الولايات المتحدة الأميركية على إنتاج الثقافة الأحادية والموحدة التي تهيمن وتسيطر على معظم القنوات التلفزيونية العالمية.

وأصبح صانع ومنتج الرسالة والصورة في المجال الإعلامي والثقافي يفكر في سوق عالمية وليس في سوق محلية لكن هذا لا ينفي أنه يفكر بقيم ومعتقدات وبأفكار وأيديولوجية لا تخرج عن الإطار المرجعي لثقافته وبيئته ومجتمعه. وهذه المعادلة تؤدي من دون شك إلى تبعية معظم دول العالم وشعوبها إلى الحفنة القليلة من الدول التي تنتج ما يبث عبر تلفزيونات العالم وباقي الوسائط الإعلامية المختلفة.

والإشكالية الأخرى المطروحة هنا فيما يتعلق بالثورة الاتصالية والعولمة الثقافية هي أن الشركات متعددة الجنسيات التي تسيطر على الإنتاج السمعي البصري على المستوى العالمي هي مؤسسات تحكمها المادة والربح والأيديولوجية، وهكذا نلاحظ ظهور البارونات في هذا الميدان أمثال "تاد ترنر" و"روبرت موردوك،" و"روبر هيرسان" وتجمعات كبيرة جدا مثل "جانات فونداشن"، و"سكريبس هوارد" و"تايم وارنر"... الخ.

فهذه التكتلات تنعم برأس مال يقدر بمليارات الدولارات. أما بالنسبة للدول النامية، التابعة، المغلوب على أمرها فإنها لا تستطيع أن تنتج المادة الثقافية التي هي بحاجة إليها، وهذا نظرا لقلة الإمكانيات المادية ولنقص الإطار البشري المتخصص والمؤهل، كما أن شراء المادة الثقافية المعلبة يكون أقل تكلفة بنسبة كبيرة. وتنسحب هذه القاعدة على غالبية الدول في العالم الثالث ماعدا القليل منها مثل الهند ومصر.

يقدر الإنفاق الإعلاني في الولايات المتحدة الأميركية بمئات المليارات من الدولارات سنويا وهذا الرقم يعني الكثير حيث إنه يساهم بدرجة كبيرة وبطريقة كبيرة في تمويل الصناعة الثقافية الأميركية وفي تمويل الكم الهائل من المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها وأشكالها.

هذا الحجم الإعلاني الكبير يوفر المستلزمات الضرورية للصناعات الثقافية الأميركية لتفرض نفسها وتبسط نفوذها على العالم إذ نلاحظ أن سعر المنتجات الثقافية يكون رخيصا وفي متناول أي دولة في العالم مهما كانت مخصصاتها المالية للبرامج والمنتجات الإعلامية والثقافية.

وبطبيعة الحال فإن الصناعات الثقافية الأميركية ليست صناعات محايدة وإنما هي صناعات تعكس النمط الأميركي في مختلف جوانب الحياة كما تعكس القيم والمعتقدات والأيديولوجية الأميركية. وكنتيجة لكل هذا أصبحت مطاعم "الماكدونالد" موجودة في مختلف عواصم ومدن العالم - أكبر مطعم ماكدونالد في العالم يوجد في موسكو- وأصبح "رامبو" و"ميكي ماوس" وكرة السلة الأميركية عناوين للنجاح والشهرة والعالمية والقوة.

وهكذا نلاحظ أن الهوة بين الدول المالكة لتكنولوجية الاتصال وللصناعة الثقافية والدول المستهلكة سواء لتكنولوجية الاتصال أو لمحتواها تزيد عمقاً يوماً بعد يوم ولصالح الحفنة القليلة التي تهيمن وتسيطر وتفرض ما يحلو لها وما يخدم مصالحها وأهدافها. وهكذا فإن ظهور المجتمع المعلوماتي والرقمي في الربع الأخير من القرن العشرين يرفع تحديات كبيرة ومصيرية أمام الدول العربية.

حيث الحاجة إلى إعادة النظر في السياسة الاتصالية ووضع استراتيجية إعلامية تقوم على التكوين والدراسات والبحوث والإنتاج وتخصيص موازنات معتبرة تليق بحجم التحدي والرهانات المستقبلية لصناعة الصورة والرأي العام.

 

Email