شعارات مكتوبة بالدم

ت + ت - الحجم الطبيعي

تراهن جماعة الإخوان في صراعها السياسي مع منافسيها وخصومها، على شعار شديد الجاذبية "الإسلام هو الحل"، ليس بهدف الوصول إلى السلطة في مصر أو البقاء فيها أطول فترة ممكنة، ولكن لتغيير هوية الدولة المصرية نفسها!

وبالفعل هو شعار براق يدغدغ مشاعر التدين لدى العامة، في بلد محافظ بطبعه، كان الدين وسيظل نسيجاً أصيلاً في تكوينه وتفكيره وثقافته. لكن هذا النوع من الشعارات الدينية له "تاريخ" مكتوب بدماء مسفوكة في صراعات مدبرة عبر عصور ممتدة، سواء قبل الإسلام أو بعده، تاريخ لا يعلمه العامة ويبتعد تماماً أصحاب الإسلام السياسي عن تفسيره.

وشعار الإخوان يتشكل من شقين، الأول هو "الإسلام"، والإسلام دين عظيم له مقاصد واضحة هي "العدل"؛ عدل مع الذات بعبادة الله وطاعته حتى تتجنب عذابه وتسعى إلى جنته ونعيمها، وعدل مع الآخر وهو وسيلة لنشر الخير وحفظ الحقوق.

والشق الثاني "هو الحل"، ولا نعرف على وجه الدقة ما هو المقصود بالحل، هل هو الحل المُنجي للمسلمين من المعاصي والذنوب والخطايا؟!.. فإذا كان كذلك، فالمعنى صحيح مائة في المائة، دون أن ينسحب على غير المسلمين، الذين يرون في دياناتهم "الحل" في علاقتهم بالسماء!

لكن إذا كان المقصود بـ"هو الحل" هو "العدل مع الآخر"، فالمعنى أيضا يخص المسلمين مع بعضهم بعضاً أو من جانبهم فقط مع الآخر، لأنهم أصحاب التكليف دون أن ينتظروا من الآخر أن يلتزم بتلك التعاليم، لأن الآخر غير المسلم له دين وتعاليم يتبعها ويلتزم بها، وقد لا تكون على هوى المسلمين.. لكن هذا حق واجب احترامه. إذاً، نحن أمام شعار يخص "المسلمين" بالضرورة وحصرياً، ويبين لهم أن الإسلام هو السبيل الوحيد إلى تحقيق مقاصد الشريعة في العدل، عدل مع الذات، وعدل مع الآخر!

لكن إذا كان شعار "الإسلام هو الحل" يتجاوز هذا المقصد إلى عالم الدولة والسياسة وإدارة المؤسسات، فنحن أمام معان شديدة العمومية ملتبسة وغامضة، ولم يحدث في أي حقبة أو مكان أن توقف أصحاب هذا الشعار عن إشعال صراعات دموية وحروب ومؤامرات ومكائد قصور، كانت تنفجر أحياناً داخل البيت الواحد والعائلة الواحدة والدولة الواحدة، منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى انهيار الخلافة العباسية!

والمسألة بسيطة ولا يلزمها تعقيد وفلسفة وكلام كبير، فالإسلام دين، جوهره مطلق لا يتغير وهو الله سبحانه وتعالى، والدولة فكرة بشرية، أي من عقل البشر وناتجة عن تطورهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وجوهر الأفكار "التغيير الدائم"، فلا دائم إلا وجه الله!

الدين ثابت لا ينتهي ولا يموت، والعالم فيه مئات الديانات عمرها من عمر الأرض، ولم تندثر من أول عبادة الأوثان إلى عبادة الحيوان، و40% فقط من سكان الأرض هم الذين يؤمنون بالديانات السماوية الثلاث، دون أن نتجاهل أن المسيحية لم تقض على اليهودية، ولا الإسلام أزاح المسيحية، بينما الدولة كيان متغير يتسع وينكمش ويتلاشى ويموت، ولن يكون آخرها الاتحاد السوفييتي الذي لم يمض على موته سوى ثلاثة وعشرين عاماً، ولن نتساءل: أين الدولة العثمانية أو بلاد الغال أو إسبرطة القديمة أو كردستان أو حتى يوغسلافيا التي تجزأت وتقطعت أوصالها، فالدولة أعراق وأجناس ولغات وقبائل وهجرات ـ قبل أن تكون ديانات- تأسست في كيان سياسي واحد له حدود وحكومة، ويمكن أن تنفصل هذه الأعراق والأجناس عن الدولة، كما يطالب الأكراد مثلاً بالانفصال عن إيران وتركيا والعراق وسوريا، وهي دول إسلامية (حسب التعبير الشائع)، وبالرغم من أن أغلب الأكراد مسلمون "سنيون"!

ولا يمكن أن تكون الدولة اليهودية بعنصريتها، هي النموذج الذي يود أن يمشي على دربه المسلمون في العصر الحديث، فهي دولة مصابة بأمراض تقضي بنهايتها مهما طال عمرها، وهي مجرد جملة اعتراضية في التاريخ صيغت في ظروف يصعب أن تدوم إلى الأبد!

وإذا تفككت إسرائيل وسقطت، هل تتفكك معها الديانة اليهودية وتسقط؟!.. بالقطع لا، لأن الدين شيء والدولة شيء آخر، والأديان لم تهبط على الدول وإنما على الإنسان، ولم يكلف الله بها الدولة وإنما الفرد، مهما انتقل من أرض إلى أرض، ومن دولة إلى دولة.

الدين أسمى مليون مرة من حشره حشراً في مفهوم الدولة الضيق المتغير المتقلب. فكيف يكون الإسلام السياسي هو الحل؟!.. وأي إسلام سياسي يقصدون؟!.. ألم يقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين (في أكثر الفترات عدلاً)، وبعض القتلة وهم متوجهون لقتل عثمان بن عفان رفعوا المصاحف وهم ينفذون جريمتهم، كما لو أن القتل تم على أسس من الشريعة وبنص من القرآن، وهذا افتراء على الإسلام ما زال يحيط به، بسبب تصرفات وسلوك من يزعمون أنهم من المجاهدين ويرتكبون جرائم بشعة ومهينة للإنسانية؟!

إذاً، نحن أمام تأويلات وتفسيرات واجتهادات كثيرة، لا تمس في الغالب علاقة الإنسان بربه، وإنما علاقة الإنسان بالسلطة، علاقة تنساب عليها أنهار من الدماء باسم الدين!

ولا يختلف ما يحدث في مصر الآن عما حدث من قبل!

 

Email