جواد أصيل أم سيارة هجينة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروم المرء الأفضل والأجود في حله وترحاله، وفي مأكله ومشربه، وفي ملبسه ومسكنه.

ولو كان المرء من عشاق الخيل ومقتنيها فإنه لا شك سيملك الجواد الأصيل، الأشقر والأشهب والأدهم، أو أيا كانت صفاته وخصائصه.

لكن لماذا على المرء أن يشتري سيارة هجينة؟ والنقاش هنا ليس في نوع السيارة وحجمها، ولكن في اسمها.

المصطلح العربي موضوع شائك في تاريخ الأمة وتاريخ اللغة، فما إن وجد علماء اللغة والكتاب، قبل قرن ونيف من الزمان، ظاهرة المصطلح الأجنبي وتكاثر المفردات المترجمة في الصحافة والحياة اليومية، إثر دخول مفاهيم جديدة في مختلف الميادين، حتى انبروا لمناقشتها وتحليلها وتقديم اقتراحات لمصطلحات عربية.

فالتقدم الحضاري تنتج عنه مفاهيم جديدة، وهذه يعـبّر عنها بمصطلحات في اللغات التي تشهد أممها هذا التقدم. ونتيجة التلاقح الثقافي بين الأمم وانتقال العلوم بينها، تنتقل هذه المفاهيم ومصطلحاتها معها.

وإذا لم يكن لدى الأمم المستوردة مفهوم من المفاهيم، فإن المصطلح الأجنبي يدخل إلى لغتها؛ من نظريات العلم والأدب والفلسفة والتقنيات الحديثة إلى أبسط عناصر الحياة مثل أسماء وجبات الطعام.

وبسبب سرعة إيقاع النتاج العلمي والتقني وكثرة المصطلحات الأجنبية وحاجة المجتمع إلى التعامل مع المفاهيم لغويا، فقد يسارع ناقل هذه المصطلحات إلى صياغة عربية سريعة للمفهوم.

وقد تكون في الثقافة العربية عامة أو لبعض الدول خاصة، مفاهيم لا مصطلحات لها، فتكون الترجمة هي الدال على المفهوم مثل "العنف الأسري" و"العنف المنزلي". وفي أحيان أخرى يكون النقل الحرفي مناقضا لما يتضمنه مفهوم المصطلح، مثل "التغريدة". فربما يكون ما يكتب على صفحات "تويتر" سيئا وفيه مشاعر البغض والحنق، وهذا ليس تغريدا على الإطلاق.

هل أحتاج إلى القول أن لكلمة "هجين" مضمونا سلبيا؟ هل فقد المترجمون والكتاب والصحافيون الإحساس بلغتهم فخلطوا الأصيل بالهجين؟ هذا مثال واحد فحسب على تيار عام في التعامل مع صياغة المصطلح العربي في زمننا هذا، ومثل ذلك أن تكون السيارة "صديقة" للبيئة.

والصداقة علاقة اجتماعية ونفسية، إذ يقال إن الصديق من صدقك القول. والكلمة الأجنبية التي ترجمت، لا تعني أساسا الصديق وإنما الودود أو اللطيف. ولو كانت الشركة أو موظفوها أصدقاء للبيئة فلا بأس، ولكن ليس الآلة، فالتعبير اللغوي غير مناسب للمفهوم. ربما ينبغي استخدام مفهوم الرفق هنا، فتكون السيارة رفيقة بالبيئة أي لا تضرها، وهو تماما المفهوم الذي يعبر عنه المصطلح الأجنبي.

ما تنفك المصطلحات الأجنبية تنهال علينا حتى لا يمكننا اللحاق بتوليد مصطلحات عربية لمفاهيمها، فلا تجاريها الجهود المبذولة في مجامع اللغة ومراكز البحوث للتعامل معها وتوحيدها.

إن أكبر المشكلات التي تواجه وضع المصطلحات في اللغة العربية، هي الخطوات المعقدة وطويلة الأمد لصياغتها، وكثرة الأطراف التي تصوغها، وتعدد المصطلحات لمفهوم واحد (لجهاز الموبايل خمسة مصطلحات عربية)، ووجود مصطلحات شائعة صاغها غير المؤهلين للتعامل معها، وشيوع التدريس وكتابة البحوث باللغات الأجنبية، فالمصطلح يولد عندما نكتب عن المفاهيم بلغتنا.

ولا يخفى أن عمل مجامع اللغة ومراكز البحوث بطيء نوعا ما، ويفتقر للتنسيق الفاعل بينها، والقواميس المتخصصة والمسارد التي وضعتها وبنوك المصطلحات التي أنشأتها، قليلة المحتوى إزاء غزارة المصطلحات التي ينتجها العالم، ولا تصل بسهولة للمستخدم، وبعضها فقير المضمون.

ربما يحسب لمجمع اللغة العربية في القاهرة أنه أنشأ قاعدة بيانات للمصطلحات ثنائية اللغة على موقعه، ولكن في موقع المجمع شيء غامض، إذ يمكن الدخول إليه في مصر ولكن ما إن تجتاز الحدود حتى يستحيل الوصول إليه. ويحسب لمكتب تنسيق التعريب في الرباط، إنشاء بنك مصطلحات ثلاثي اللغة يمكن للجميع الاستفادة منه، إذ إنه متاح على الإنترنت، وكذلك نشره دورية "اللسان العربي" التي تـُعنى بشؤون المصطلح العربي.

إن ما تضعه هذه المؤسسات لا يصل بسرعة إلى المجتمع، فإما أنه لا يكون متوفرا في السياقات التي يتوقع أن يكون فيها، مثل المكتبات العامة وأسواق الكتب ومعارضها ومواقع الإنترنت، أو أن الناس لا يدرون بوجوده أساسا.

والعمل المعجمي الذي تتبناه دور النشر وبعض الجامعات ومراكز البحوث، يخلق مشكلة تعدد المصطلحات، وبعض قواميسها لا يخضع لأي تحسين أو زيادة إزاء الحداثة المطردة في حقول العلم والمعرفة المختلفة، وما تنتجه وسائل الإعلام من مصطلحات، وضعاً أو ترجمة، هو ما يتبناه المجتمع ويشيع.

فسرعة إيقاع العمل فيها والحاجة الماسة لنشر النصوص وإذاعتها، وفي بعضها ترجمات لأخبار عن آخر الاكتشافات العلمية تتضمن مفاهيم ومصطلحات حديثة، يؤدي إلى صياغة سريعة، وغير سليمة أحيانا.

وقد يكون بعض العاملين في وسائل الإعلام غير مدركين لطرق صياغة المصطلحات، أو لم يحصلوا على تدريب أكاديمي في التعامل مع المصطلح.

في مجال المصطلح العربي، ثمة حاجة لجهود جبارة لنقل المصطلحات الحديثة وتوحيدها وجعلها يسيرة المنال، فالعمل المصطلحي في الدول الأخرى، المتقدمة والنامية، قد قطع أشواطا بعيدة في هذا المجال، والعمل العربي لا يستطيع اللحاق بالركب.. فما زال المصطلح العربي يغرد خارج السرب.

 

Email