الإخوان المسلمون.. عود على بدء

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال الإمام الفقيه جمال الدين الأفغاني "إن كل ما في هذا العالم زائل يخضع للعقل البشري المطلق، وإن الشرائع تتغير بتغير الأمم"، ورأى أن "من الضلال القول بتوحيد الإسلام بين السلطتين المدنية والدينية، فهذه الفكرة خطأ محض، ودخيلة على الإسلام". وقال الإمام محمد عبده مفتي مصر في ذلك الوقت، إنه "ليس في الإسلام ما يسمى السلطة الدينية أو المؤسسة الدينية بوجه من الوجوه، فالإسلام لا يجعل للقاضي أو المفتي أو لشيخ الإسلام أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وأنه على العقل أن يقوم بدور المفسر في القضايا الملتبسة أو العامة أو الغامضة في القرآن والحديث".

 أما عبد الرحمن الكواكبي فقال: "إن الإسلام لا يعرف الحكومة الدينية ولا يعترف بها، فليس في الإسلام نفوذ ديني مطلق غير إقامة شعائر الدين، وإن إصلاح الشرع يتم عن طريق الاجتهاد". وأكد علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" أن "الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة، هي جميعها خطوط دنيوية صرفة لا شأن للدين بها، فالدين لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها".

بعد عدة عقود من أفكار هؤلاء الفقهاء النهضويين الحداثية، أسس الشيخ حسن البنا ومعه مجموعة من رجال الدين، حركة "الإخوان المسلمين" عام 1928، وبدأت الحركة تتوسع وتنتشر ويزداد عدد المنتسبين إليها، مما أوحى للشيخ البنا بإمكانية تحويلها إلى حركة سياسية، بعد أن كانت حركة دعوية صرفة تسعى لإحياء الدين ونشر مكارم الأخلاق الإسلامية، كما فهمها مؤسسوها.

وأمام مطامحه السياسية، قال الشيخ البنا في رسالته للمؤتمر الخامس للإخوان المسلمين إن "الإسلام دين ودنيا"، وعبر بذلك عن رغبته في إدخال حركة الإخوان المسلمين في اللعبة السياسية المصرية، وأظهر تأييده للملك فؤاد ليكون خليفة للمسلمين، بعد أن أسقط كمال أتاتورك الخلافة العثمانية. وأفتى البنا بأن الخلافة شعيرة إسلامية، وبالتالي رفع شأنها إلى مصاف تعاليم الدين وشعائره وشريعته، وأكد أن الخليفة هو "الإمام وواسطة العقد، ومجمع الشمل، وظل الله في الأرض"، وبذلك بذر بذوراً جديدة في اللعبة السياسية وفي شؤون الدولة.

ونلاحظ أنها المرة الأولى التي يدخل بعض الفقهاء علاقة الدين بالدولة في بنية الشريعة وجوهر الدين، دون أي أساس من صحيح الدين أو مصالح الناس. وقد تطورت هذه الأفكار فيما بعد، فتلقفها أبو الأعلى المودودي الذي تحدث عن حاكمية الله، ونحّى البشر عن المساهمة في إدارة دولتهم وحياتهم والإشراف على مصالحهم، وبرر لسيد قطب فيما بعد أن يجعل من الحاكمية جوهراً للإسلام، ووصل به الأمر إلى تكفير المجتمع بكامله.

وما زال رجال الإسلام السياسي، منذ نهاية الربع الأول من القرن الماضي حتى الآن، يناقشون علاقة الدين بالدولة ويرفضون التجارب الإنسانية في هذا المجال، كما يرفضون العودة إلى صحيح الدين وغربلة التراث ونقده، حتى أن بعضهم حمل السلاح وما زال يحمله لتطبيق رؤاه في علاقة الدين بالدولة والاجتهاد والتكفير، ويرفض الآخر كما يرفض الشراكة والتعددية في المجتمع.

وهكذا يمكن رسم طيف آراء الحركات الإسلامية، بين حركات معتدلة تقول إن الإسلام دين ودولة، وحركات متطرفة تريد فرض الإسلام (كما تفهمه) بالعنف وحد السيف والإرهاب، وليس لأي من هذه الحركات مرجعية دينية تعتمد على صحيح الإسلام.

في ضوء هذه الأفكار وتعقيدات التطور التاريخي خلال قرن، والمصالح الذاتية لبعض القادة الإسلاميين، تعمل حركات الإخوان المسلمين المعاصرة للوصول إلى السلطة، دون أن تمتلك في الواقع لا الشرعية الدينية الصحيحة، ولا التقليد الديني القويم في هذا المجال، ولا التجربة السابقة، ولا البرامج التي تستوعب الواقع وتعالجه، وتتلطى تحت شعارات عامة وغامضة لا تسمن ولا تغني من جوع، مثل "الإسلام هو الحل" أو "تطبيق الشريعة الإسلامية"، مع أن هذه الشريعة لم تهتم بمسألة الدين والدولة، ولم تشر إليها.

إن هذا يلقي الضوء على التجربة المعاصرة للإخوان المسلمين في تونس ومصر، فخلال عام ونيف من تجربة كل منهما، وقع الإخوان المسلمون في البلدين في أخطاء عديدة، وحفروا فجوة بينهم وبين الناخبين من الناس الذين كانوا ينتظرون منهم وضع البلاد على طريق الخلاص.

وربما يقع على رأس هذه الأخطاء، الاستعجال، وتعاملهم "الماكر" و"غير الواضح" مع شركائهم، فكانوا وما زالوا يبطنون غير ما يظهرون. فقد صرحوا في تونس مثلاً، بأنهم يرغبون في الشراكة مع الآخرين في حكم البلاد، وأنهم لن يعملوا على تخريب ثوابت المجتمع (الحديثة والعلمانية والعلمية)، وأكدوا أكثر من مرة بلسان الشيخ راشد الغنوشي، أنهم جادون في الشراكة مع الآخر..

هذا في الظاهر، أما في الواقع فقد غضوا الطرف عن ممارسات المتطرفين السلفيين، الذين كانوا يعتدون على تجمعات الأحزاب الأخرى ومحاضراتهم، وحاولوا تغيير مدونة الأحوال الشخصية المتعلقة بالمرأة (وفشلوا)، كما حاولوا الاستئثار بالسلطة وإضعاف شركائهم، وأخذوا يعينون أنصارهم المقربين في وظائف الدولة الكبرى السياسية والإدارية، دون أخذ المصالح العامة بعين الاعتبار (عين الشيخ الغنوشي زوج ابنته وزيراً للخارجية وأحد أقربائه وزيراً للعدل).

ورغم أنهم شعروا بأن الشعب التونسي بدأ ينفضّ عنهم، فإنهم تراجعوا عن وعودهم التي قطعوها وعادوا لآرائهم القديمة.

وفي مصر حاولوا تمرير دستور على مقاسهم وخالفوا التقاليد المعمول بها، ثم تدخلوا في القضاء من خلال عزل النائب العام ومنع المحكمة الدستورية من الانعقاد، وفي السلطة التشريعية من خلال تعيين أعضاء جدد في مجلس الشورى على مقاسهم، وحاولوا الهيمنة على وسائل الإعلام (وأخونتها)، إضافة إلى ممارسات عديدة تعكس نكوصهم عما وعدوا به.

وعليه يصح الاستنتاج أن الإخوان المسلمين لم يطوروا آراءهم، وأنهم لا يحترمون وعودهم، ويستعجلون تولي السلطة دون تبصر.

 

Email