تركيا وسوريا.. إشكالية التعاون والتدخل العسكري

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد انهيار السلطنة في نهاية الحرب العالمية الأولى، تحولت العصبيات القبلية والعرقية والطائفية، إلى بؤر توتير للعلاقات المتبادلة بين ورثة السلطنة العثمانية والمناطق العربية التي كانت خاضعة لها، وقد استمرت لعقود عدة بعد قيام الجمهورية التركية واتهام الثورة العربية الكبرى بانهيار السلطنة العثمانية.

بدورهم، اتهم العرب أتاتورك بالتنكر للغة العربية، وإبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، وإلغاء الخلافة العثمانية، واعتماد العلمانية، ودعوة الأتراك إلى التوجه غربا. وبعد أن سيطرت تركيا على لواء الإسكندرون وفق تواطؤ معلن من جانب عصبة الأمم، ثم انحيازها بالكامل إلى جانب إسرائيل منذ قيامها، استمرت العلاقات العربية - التركية شديدة التوتر لعقود عدة مع دول المشرق العربي، خاصة سوريا.

ورثت الدول العربية المشرقية مشكلات الحدود مع جيرانها، بالإضافة إلى قيام إسرائيل على أرض فلسطين، ودعم تركيا لتمددها على حساب الدول العربية المجاورة، واحتلال أراضيها. فإسرائيل نموذج بارز لدولة استعمارية توسعية، وهذا الشكل من الاستعمار الجديد شديد الخطورة، لأنه يتبنى مقولات عنصرية مناقضة لمفهوم الدولة العصرية.

فهي لا تعترف بحدود ثابتة ونهائية لها، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد في دستورها تعريف واضح لحدودها الإقليمية، ولا تعترف بالحدود القائمة مع أي دولة من دول الجوار الإقليمي، ولا تحترم القرارات الدولية.

وقد استغلت تركيا مصادر المياه المتوفرة لديها، في النزاعات الإقليمية لفرض سياستها على دول مجاورة لها، بسبب حاجة تلك الدول الماسة لمياه الأنهار التي تنبع في تركيا.

ولم يكن اقتسام مياه نهري الفرات ودجلة منصفا للجانب العربي لأن تركيا استخدمتها كورقة ضغط سياسي، وأقامت سدودا عدة على مجريي هذين النهرين، فأثرت سلبا على اقتصاد العراق وسوريا، نظرا لدور المياه الحيوي في تطور المدن والإنتاج الزراعي في كلا البلدين.

لكن سياسة رئيس الوزراء رجب أردوغان، أدخلت نوعا من الأمل بتشكيل تحالف عربي - تركي يشكل موقعا متقدما لمنع المشروع الصهيوني من تحقيق أهدافه. فتوقفت مطالبة السوريين بلواء الإسكندرون، وتعززت العلاقات بين تركيا وسوريا لتصبح استراتيجية خلال سنوات عدة، قبل قيام الانتفاضة السورية.

وشهدت تركيا في عهد أردوغان نهوضا اقتصاديا بارزا، وتحولت إلى دولة إقليمية فاعلة في الشرق الأوسط، فتطورت علاقاتها الاقتصادية واستثماراتها المتبادلة مع غالبية الدول العربية.

وخلال السنوات العشر المنصرمة، بذلت تركيا المزيد من الجهود لتوفير الطاقة لمصانعها، وتعظيم إنتاجها، وفتح اسواق جديدة لسلعها. وهي تعتمد في مصادر الطاقة، خاصة النفط والغاز، على الدول العربية النفطية بنسبة كبيرة.

وعملت تركيا على جذب الرساميل من بعض الدول العربية، وفتحت أسواقا جديدة لصادراتها إلى العالم العربي، وأبدت رغبة قوية في المشاركة في أمن دول الخليج، وبدأت تضع الخطط الاستراتيجية لاستعادة أمجاد السلطنة العثمانية، بحيث يكون لها موقع متقدم في الشرق الأوسط الجديد، الذي يجري الإعداد له برعاية أميركية وترحيب أوروبي، وبمشاركة إسرائيلية فاعلة.

وتحسنت علاقات تركيا بصورة مطردة مع سوريا، والعراق، والأردن، ودول الخليج العربية، على قاعدة "تصفير الأزمات" التي أطلقها وزير الخارجية داوود أوغلو، وسياسة الأجواء المفتوحة، وتطبيع العلاقات، وفتح الحدود، وتوقيع اتفاقيات التبادل التجاري وتوظيف الاستثمارات، والتنمية المتبادلة، مع جميع دول العالم.

ونجحت تركيا في الحصول على مشاريع كبيرة مع الدول العربية في مجال الطرق، وسكك الحديد، والمصانع، والجسور، والمستشفيات، والمشاريع الزراعية، والكهرباء. وكانت تخطط لعلاقات اقتصادية ذات طابع استراتيجي مع الدول العربية المجاورة، خاصة سوريا والعراق، وارتفع مستوى التبادل التجاري وتوظيف الرساميل، بينها وبين الدول العربية بصورة عمودية، حتى بلغ عشرات مليارات الدولارات.

لكن انتفاضات الربيع العربي منذ 2011، ومشاركة تركيا في إسقاط النظام الليبي، ومحاولتها المستمرة لإسقاط النظام السوري بالقوة، أدخلت العلاقات العربية - التركية مرحلة من التوتر الشديد، بسبب موقف تركيا الداعم بقوة للحل العسكري في سوريا، والعمل على إفشال الجهود المؤيدة للحل السلمي وترك الشعب السوري يقرر مصيره بحرية دون تدخل خارجي.

قدمت تركيا دعما غير محدود للقوى الإسلامية، العاملة على استدراج تدخل عسكري خارجي لإسقاط النظام السوري على الطريقة الليبية، مما أدخل الأزمة السورية منذ وقت مبكر في دائرة التدويل، بعد أن عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات حازمة وقابلة للتنفيذ، عقب الاستخدام المزدوج للفيتو الروسي والصيني، فتحولت الأزمة السورية إلى بؤرة للتوتر الإقليمي والدولي، بسبب كثرة القوى العسكرية المشاركة فيها، والتي بدأت تثير الرعب لدى الشعب السوري من جهة، ولدى دول إقليمية وعالمية من جهة أخرى، مما يستوجب إيجاد حل عقلاني وسريع للأزمة السورية وللأزمة الفلسطينية معا.

فمفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين متوقفة منذ سنوات عدة، استباحت خلالها إسرائيل جميع الأراضي الفلسطينية، وبدأت بطرد جماعي للشعب الفلسطيني عن أراضيه، لإقامة مستوطنات صهيونية مكانه.

وغياب الحل السلمي سيدفع الفلسطينيين مجددا إلى الكفاح المسلح، دفاعا عن أرضهم ووجودهم، فإسرائيل ترفض حل النزاعات بالطرق السلمية، وتساهم في تفجير المزيد من النزاعات الدموية.

وتبدو منطقة الشرق الأوسط اليوم على حافة انفجار شامل على جميع المستويات، فقد توترت العلاقات التركية - العربية منذ بدء الانتفاضة في سوريا بشكل ملحوظ، نظرا لإصرار تركيا على إسقاط النظام السوري بالقوة، واحتضان معارضة سورية مسلحة على أراضيها، وتفكيك مؤسسات سورية بكاملها ونقلها إلى الداخل التركي، وخضوعها لضغوط أميركية وأوروبية وإسرائيلية بإقامة شبكة صواريخ باتريوت على حدودها مع سوريا.

لذلك تراجعت صورة تركيا في العالم العربي، وباتت عودة العلاقات إلى طبيعتها رهنا بمدى استعداد تركيا للعمل على استقرار سوريا، وضمان وحدة شعبها وأراضيها، وارتسمت علامات استفهام كبيرة حول حقيقة الدور التركي في الشرق الأوسط الجديد، الذي تشهد دوله نزاعات دموية بين الطوائف والمذاهب والإثنيات العرقية، وتزايد خوف الأقليات الدينية والعرقية في دول مجاورة لتركيا تمارس القمع والإرهاب على رعاياها، وبدا واضحا أن علاقات تركيا بإسرائيل، منذ أتاتورك وخلفائه حتى أردوغان، ذات طابع استراتيجي ثابت، مما يسيء إلى صورة تركيا في العالم العربي، ويحد من قدرتها على المشاركة في إعادة إعمار مجتمع سوري دمرته النزاعات الداخلية والتدخل التركي.

 

Email