الإمبراطورية الأميركية بين الأمس والغد

ت + ت - الحجم الطبيعي

ورد في أخبار الأسبوع الماضي، أن الولايات المتحدة أوقفت إرسال حاملة طائرات ثانية إلى مياه الخليج.

القرار في حد ذاته ليس موضع إثارة، لكن الإثارة تنبعث من مدلوله ومغزاه. والقرار مبني على اعتبارات اقتصادية وليس اعتبارات عسكرية.

على مدى السنوات الخمس الأخيرة يعاني الاقتصاد الأميركي حالة تدهور بمعدل متصاعد. وأبرز مظاهر الأزمة عجز ضخم في الميزانية الاتحادية من المتوقع أن يبلغ خلال السنوات القلائل المقبلة نحو ستة تريليونات دولار.. وقد يصعد بعد ذلك إلى تسعة تريليونات. والتحدي الفوري الذي يواجه إدارة أوباما الآن هو كيفية إجراء عملية خفض كبيرة للعجز قبل أن ينفلت.

في هذا الإطار يدخل قرار وقف إرسال حاملة الطائرات إلى مياه الخليج. فقد قررت الإدارة تقليص الاعتمادات العسكرية لوزارة الدفاع البند الأكبر في الميزانية العامة الاتحادية. فهل يعني ذلك بداية عد تنازلي للسيطرة الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة على المستوى العالمي؟ هل بدأ انكماش الامبراطورية الأميركية؟

هذا السؤال الخطير تناوله الفيلسوف الأميركي الشهير نعوم شومسكي في سياق مقابلة صحافية.

شومسكي محلل استراتيجي نادر النظير في هذا العصر. ولذا فإن التحليلات التي يطرحها تنطوي على حد أقصى من المصداقية ولإدراك هذه المصداقية الفريدة، فإن علينا أن نستذكر أنه يهودي يتخذ موقفاً انتقادياً ثابتاً للحركة الصهيونية الأميركية والعالمية.

يؤكد شومسكي أن الولايات المتحدة تتدهور اقتصادياً مع صعود قوى اقتصادية أخرى في العالم تتقدمها الصين، الأمر الذي يؤدي لتقليص السيطرة الأميركية على التجارة العالمية. بكلمات أخرى يتحول العالم اقتصادياً وبالتالي سياسياً إلى مراكز قوة متنوعة عوضاً على احتكار قوة عظمى واحدة.

عند نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة في قمة قوتها. فقد كانت تمتلك نصف ثروة العالم وخرجت كل واحدة من الدول المنافسة لها من الحرب وهي مدمرة كلياً أو جزئياً. وبالإضافة إلى ذلك كانت أميركا مؤمنة تماماً، ما أغراها بوضع خطط جدية لحكم العالم بأسره.. وهو أمر لم يكن غير واقعي في ذلك الحين. فبعد الحرب مباشرة قام الرئيس هاري ترومان بتشكيل فريق برئاسة جورج كينان رئيس قسم تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأميركية، عهد إليه بوضع تفاصيل هذه الخطط.

وهكذا وبموجب هذه الخطط صارت أميركا القوة العظمى الأولى في العالم على مدى ما يقارب عقدين. لكن بحلول بداية عقد السبعينات صار العالم قسمةً بين ثلاث قوى اقتصادية: مركز صناعي لأميركا الشمالية بقيادة الولايات المتحدة، ومركز أوروبي بقيادة ألمانيا، ومركز آسيوي بقيادة اليابان. ومنذ ذلك الحين صار النظام الاقتصادي العالمي متنوعاً. ومع مرور الزمن يتسع نطاق هذا التنوع حتى برزت الصين ابتداءً من عقد التسعينات لتصير مرشحة لمرتبة القوة الاقتصادية الأولى في العالم خلال عقدين.

في هذه الأثناء أخذ الاقتصاد الأميركي يفقد زخمه حتى صارت الولايات المتحدة أكبر دولة مدينة في العالم، في حين صارت الصين الدائن الأكبر لواشنطن.

هذا التدهور الاقتصادي الأميركي لم ينشأ من فراغ. فهو يعزى إلى تورط أميركا في حروب كبرى متصلة على حساب الطبيعة الإنتاجية للاقتصاد لحساب صناعة السلاح عوضاً عن إنتاج السلع المصنعة.

وبينما كان الاقتصاد الصيني يسجل أعلى معدلات النمو عبر عقود في ظل تخطيط مركزي، كانت بنية الاقتصاد الأميركي تتآكل بسبب الإنفاق التدميري على الحروب.

والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح اليوم بإلحاح هو: هل تعي القيادات في العالم العربي والإسلامي أن الإمبراطورية الأميركية أخذت تتفكك بحكم تآكل النفوذ الدولي للولايات المتحدة؟ وإذا افترضنا أن الإجابة هي بنعم.. فهل أعدت هذه القيادات رؤية استراتيجية جديدة لاستحداث انقلاب سياسي في كيفية التعامل العربي والإسلامي بما يضع العالمين العربي والإسلامي على طريق الاستقلال الكامل عما تبقى من هيمنة متدهورة للولايات المتحدة.

لو تفكرت القيادات العربية والإسلامية في هذا التحول الأميركي، فإنها لن تجد نفسها مضطرة إلى إعمال الخيال. فلتنظر فقط في ما جرى ويجري في أميركا اللاتينية التي تتسابق دولها على التحرر من الهيمنة الأميركية سياسياً واقتصادياً، فأصبحت تتعامل مع واشنطن من موقع استقلال تام. وحتى الآن شمل هذا الاستقلال كلاً من البرازيل وفنزويلا والأرجنتين وبوليفيا والإكوادور ونيكاراغوا..

والبقية على الطريق، وبذلك تدخل هذه الدول مرحلة جديدة عنوانها «التحدي»، بعد أن أدركت أن الولايات المتحدة لم تعد القوة العظمى التي تنفرد برسم وتنفيذ أجندة للعالم وفقاً لمصالحها الذاتية.

هكذا يتيح التاريخ فرصة نادرة لدول العالم العربي والإسلامي.. فهل تستطيع القيادات العربية والإسلامية حشد قواها الذاتية لاستثمار هذه الفرصة؟

 

Email