جنون النفس

ت + ت - الحجم الطبيعي

"ابني ليس بمجنون لكي أذهب به للطبيب النفسي!!"، تتردد هذه العبارة بشكل ملموس في مجتمعاتنا العربية، وتكون العائق الأكبر لعلاج حالات لا تعد ولا تحصى من الأمراض النفسية. لكن أليس الجنون والمرض النفسي هما وجهان لعملة واحدة؟!

مما لا شك فيه أن استعمال مصطلح معين يحمل معه معاني ودلالات خاصة لها تأثيراتها وأبعادها المتنوعة.. وينطبق ذلك على كل المجالات التي تستعمل فيها مصطلحات لغوية. وفي الطب النفسي اليوم نفضل في بلادنا العربية عدم استعمال مصطلح الطب العقلي، أو المرض العقلي، أو الصحة العقلية.. وبدلاً عنها نستعمل الطب النفسي والاضطراب النفسي والصحة النفسية. لكن لماذا هذا التفضيل؟

- حدثت تطورات مهمة خلال النصف الأخير من القرن الماضي في ميدان الطب النفسي مما أدى إلى تأكيد استقلال هذا الفرع من فروع الطب وترسيخ وجوده منفصلاً أكثر عن طب الأعصاب أو طب الأمراض العصبية المرتبط أساساً بأمراض الدماغ مثل الصرع والخرف والجلطات الدماغية والنزف الدماغي وتلف الدماغ وغير ذلك.. وهذا الاستقلال نشأ تدريجياً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية .

حيث يستعمل مصطلح الطب النفسي كميدان علاجي طبي وهو يعني حرفياً (مداواة iatry) (النفس (Psych = أو طب النفس، وفي المقابل يستعمل مصطلح الاضطراب العقلي (Mental Disorder) في تصنيف الأمراض الطبية الأخرى.

وقد ساعد التطور الاجتماعي والثقافي وتطور العلوم النفسية العامة في تلك الدول بتخفيف الوصمة السلبية المرتبطة بالمرض النفسي، وأصبح أكثر فهماً وأكثر قبولاً من قبل المجتمع والأسرة والقانون والطب والإعلام والفن والأدب. وأصبح الذهاب إلى الطبيب النفسي أو المعالج النفسي أمراً عادياً ويومياً..

- يرتبط مصطلح المرض العقلي في اللغة العربية باضطراب العقل أو زواله.. والجنون هو فقدان العقل ويترتب عليه زوال التكاليف الدينية والقانونية، كما يترتب عليه نتائج سلبية أسرية واجتماعية متنوعة. والمصطلح يشير بذاته إلى حالة غياب للمنطق والقدرات العقلية غياباً كاملاً ونهائياً.

ولا يوجد في الطب النفسي حالة غياب كامل للعقل إلا في حالات محددة مثل التهاب الدماغ الحاد أو التسمم الحاد بمواد كيميائية أو غيرها من الأسباب العضوية التي تؤثر على عمل الدماغ ووظائفه بشكل واضح وتسمى حالات اختلاط الذهن الحادة.. وبعضها يشفى إذا تلقى العلاج اللازم وبعضها يؤدي إلى الوفاة وبعضها يؤدي إلى آثار نفسية وعقلية وعصبية طويلة الأمد.

وأما الزوال الكامل للملكات العقلية وبشكل دائم فهو يحدث في حالات الخرف المتقدمة، حيث تتدهور المهارات العقلية بالتدريج لتصل بالإنسان إلى حالة خاصة من تلف الدماغ وضموره ومن ثم إلى الوفاة..

ومن خلال ما سبق نجد أن حالات زوال العقل بشكل كامل هي حالات قليلة.. ومن الخطأ إطلاق مصطلح الجنون على جميع الحالات النفسية التي لا يحدث فيها زوال كامل للعقل.

والحقيقة أن عدد التشخيصات المرضية في الطب النفسي المعاصر تصل إلى مئة وخمسين تشخيصاً.. وهي تتنوع من القلق والمخاوف المرضية والوساوس القهرية والأعراض الجسمية النفسية واضطرابات التكيف إلى الاكتئاب بدرجاته المختلفة واضطرابات الشخصية والاضطرابات الجنسية واضطرابات الطعام وغيرها. كما يتدخل الطب النفسي في مشكلات الزواج والطلاق وفي الاستشارات والمشكلات المهنية والاجتماعية المختلفة.

وهذه الاضطرابات تشكل في نسب انتشارها أكثر من 80 بالمئة من الحالات النفسية المنتشرة في المجتمع وهي تعتبر حالات غير عقلية، حيث لا تترافق مع أعراض الذهان مثل الهلوسة والهذيان وتفكك المنطق وغير ذلك..

- إن مصطلح نفس ونفسي أصبح أكثر قبولاً واستعمالاً في مجتمعاتنا ولغتنا اليومية.. وكذلك مصطلح الاكتئاب والقلق.. وفي ذلك تطور إيجابي مقبول وخطوة نحو الأمام واقعية وعملية تنحو نحو تقبل الاضطراب النفسي والنظر إليه بشكل عملي ومنطقي وطبي ومن ثم السعي إلى دراسته وتفهمه وعلاجه..

ويعود ذلك إلى التطور العام الذي شهدته مجتمعاتنا، وإلى جهود متراكمة من قبل الاختصاصيين، وإلى وسائل الإعلام المختلفة، وأيضاً إلى ازدياد عدد العاملين في المهن النفسية والعلاجية وتطور الخدمات النفسية بشكل عام..

- وأخيراً.. يمكننا القول من خلال ما سبق أن مصطلح الطب النفسي في الوقت الحالي يمكن اعتباره مقبولاً ومفيداً ولا يحمل في ثناياه معاني سلبية أو دعائية غير مقبولة.. ولا بد من الجهود المستمرة من قبل الاختصاصيين أنفسهم والمؤسسات التعليمية الطبية والتربوية والإعلامية.

والتي تهدف إلى ترسيخ المفهوم الإيجابي والفعّال والمفيد لكل ما يتعلق بقضايا الطب النفسي كي يستطيع هذا الميدان الطبي أن يقوم بدوره المناسب في خدمة المجتمع والفرد دون عوائق ونظرات سلبية ومخاوف لا تتناسب مع هذا الميدان الحيوي المهم والذي يمكن له أن يتدخل إيجابياً في جميع شؤون حياتنا المعاصرة.

 

Email