حيرة الكبار في مرابع الصغار

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المعروف أن الدبلوماسية تعبير مرن عن سياسات الدول، وتتخذ هذه الدبلوماسية طابعاً أكثر مرونة وحذقاً، عندما تتصل بالكيانات والدول الكبرى. ولعل مدرستي الدبلوماسية الأميركية والسوفييتية أثناء الحرب الباردة، شاهد ساطع على تبعية الدبلوماسي للسياسي، حد التماهي التام بين المستويين، ولم يكن مشهوداً في تلك الأيام حالة التضبُّب والحيرة التي نلمسها هذه الأيام، على مستوى دولتين كبيرتين ودبلوماسيتين عتيدتين كالأميركية والروسية.

وحتى ندلل على ما نذهب إليه، لا بأس من إيراد أمثلة محددة لهذه الحيرة الدبلوماسية، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على حيرة سياسية موازية.

 وسنبدأ بالحالة الروسية التي أظهرت أخيراً تضاربات في الرؤى تجاه المسألة السورية، حتى إن بعض المراقبين ذهبوا بعيداً في استنتاجاتهم، وقالوا إن هذه الأقوال الروسية المتناقضة في تقييم الوضع السوري، دليل على خلاف محتدم في الكرملين، وذهب البعض الآخر إلى الزعم بأن هذه الأقوال المتضاربة لا تعدو أن تكون مجرد توزيع أدوار يتوخَّى منه الكرملين خط رجعة إذا ما سقط النظام السوري؛ وقد ظهر هذا التباين في موقفي رئيس الوزراء ووزير الخارجية الروسيين، وفي المقابل انسحب ذات الموقفين المتعارضين على الرئيس بوتين ونائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف.

يقول البعض إن الرئيس «بوتين» ووزير خارجيته «لافروف» يتمترسان في خندق دعم النظام السوري مهما كان الثمن، وفي المقابل يتمترس رئيس الوزراء ميدفيدييف ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، في خندق مقابل يقتضي التخلِّي الحر والمتدرج عن نظام بشار. ذلك ما يمكن استشفافه من النبرة غير المتفائلة التي يتحدث بها بوغدانوف، مقرراً أن الصراع لن يحسم في أشهر، بل في سنين، مقابل نبرة التبنِّي الكامل للنظام السوري التي يصدح بها لافروف!

هنا نلحظ الإخفاق الدبلوماسي المثير للحيرة، وسنرى مثل هذا الأمر في بُعد آخر. فالدبلوماسية الأميركية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من ذات التفارق بين الموقفين السياسي والدبلوماسي، وهاكم مثلاً ساطعاً من اليمن.

وقبل الولوج لبعض التفاصيل، أود الإشارة إلى أن صناعة القرار في الولايات المتحدة تتَّسم بقدر كبير من الشفافية، وحساباتهم الجيوسياسية تتَّسم بدقة الثوابت، وملاحقة المتغيرات، ولعل هاتين السمتين مثلتا وتمثلان تميزاً في الدبلوماسية الأميركية، لجهة المرونة في ملاحظة المتغيرات المتسارعة، مع ثبات نسبي في السياسات العامة، وقد بدت هذه السمات الإيجابية بصورة أكثر فاعلية، خلال تولي الإدارة الديمقراطية مقاليد البيت الأبيض.

وكانت إدارتا كلينتون وأوباما تُمثلان البُعد الأكثر حكمة في السياسة الخارجية، غير أن المُتغيرات العاصفة، والمفاجآت المتسارعة في المنطقة العربية، وضعت إدارة أوباما أمام استحقاقات دبلوماسية صعبة، ومن المعروف أن الحالة اليمنية مثلت ضمناً وأساساً تحدياً من تحديات الربيع العربي، وأملاً لمخرج لم يتوفَّر في بقية بلدان الربيع.

ووقفت الولايات المتحدة إلى جانب التغيير الذي بلورته المبادرة الخليجية عبر الانتقال السلمي للسلطة، والشروع في تنفيذ البرنامج الخاص بالمبادرة، وخاصة ما يتعلق بإعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن والشرطة، والذهاب إلى الحوار الوطني بوصفه المحطة التي ستحسم جملة المطالب المشروعة في التغيير، وأبرزها دستور الدولة الجديد، وتحديد شكل الدولة الاتحادية التوافقية، والتخلِّي التام عن النظام المركزي الذي أشاع الفساد والإفساد، وحل المشاكل الملحة في الجنوب وصعدة، وغيرها من المرئيات.

وقفت الإدارة الأميركية مع التغيير في اليمن، وباشرت دعماً مادياً ومعنوياً للقيادة السياسية والحكومة الانتقالية، لكن المراقبين لمسوا أن بعض التصريحات والتحركات التي يقوم بها سفير الولايات المتحدة في صنعاء، جيرالد ميتشل فايرستاين، تقع في مصيدة التفارق الاجتهادي مع رؤية الخارجية الأميركية، وذلك استناداً إلى نظام المعلومات الذي يتوفَّر عليه السفير. وأفترض شخصياً أن تلك التحركات والتصريحات صادرة عن حماس حميد، وحسن نية مقبولة.

غير أنها قد تُحرج الخارجية الأميركية، وقد تبدو أحياناً مجافية للقواعد الدبلوماسية، وترسل رسائل خاطئة لفرقاء الداخل اليمني، دون أن ندَّعي قصداً خاصاً للسفير الأميركي الذي يعبر في نهاية المطاف عن وجهة النظر الرسمية للولايات المتحدة.

بعض المتفرغين لعرقلة تنفيذ المبادرة الخليجية في اليمن، يتأسُّون ببعض التصريحات المجزوءة للسفير الأميركي فايرستاين، ومنهم من يعتبرها مصاغة للتحرك ضد المبادرة، مُتدثرين بقدر كبير من الاستيهامات الخاطئة. هنا أشير إلى واقعتين فقط.. الأولى تتعلق بتصريحه الشهير أثناء المسيرة الشبابية من تعز، حيث اعتبرها خطوة مُجافية للتوافق السياسي الداخلي، والثانية خلال مؤتمره الصحافي الأخير الذي لفت انتباه المراقبين بما انطوى عليه من رسائل ناجزة، وغير مألوفة من قبل الدبلوماسيين، ما لسنا بصدد تفصيله هنا.

هذا يجرنا إلى أسئلة افتراضية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل للسفير رأي ودور مُرجِّح للضربات الجوية لطائرات من دون طيار، على اعتبار أنها الوسيلة الناجعة لضرب تنظيم القاعدة في اليمن رغم سقوط ضحايا مدنيين كثر، مُقابل قلة قليلة من الإرهابيين؟ هل يتوجَّس السفير من تيار الإسلام السياسي المنخرط في مؤسستي السلطة والمعارضة، والمُلتبس أيضاً بالمؤسسة الاجتماعية؟

إذا كان أبطال القصة في الحيرة الروسية يشملون الرئيس بوتين، ورئيس الوزراء ميدفيدييف، ووزير الخارجية لافروف، ونائب وزير الخارجية بوغدانوف، فإنها في الحالة الأميركية تقف عند عتبة سفير الولايات المتحدة في صنعاء. وهذا يدل على عنصرين مهمين: الأول يؤشر إلى أنه لا خلل جوهرياً في قراءة الخارجية الأميركية للحالة اليمنية، والثاني يؤشر إلى المرونة الدبلوماسية المتاحة للسفير، ما يوقعه في تسجيل مواقف متسارعة قد تتعارض مع ثوابت القراءة الأميركية للحالة اليمنية.

نعم، نستطيع اليوم ملاحظة حالة الحيرة الدولية تجاه مصائر وإفرازات الربيع العربي، التي تطال أعتى الدبلوماسيات وأكثرها رسوخاً في قواعد المعايير ونُظم البيانات، ولهذا السبب كتبتُ هذا المقال، مُجتهداً قدر الإمكان في تقريب المسافة بين الواقع والمأمول، وأن تكون الدول الكُبرى عاملاً مساعداً في خروج العرب من ربيع التنافي العدمي، إلى ربيع الازدهار والنماء. ولا أزعم أن في وسعي إطلاق أحكام قيمة عامة حول هذا الموضوع، لكنني في المقابل أرى بعين اليقين أن الكبار يتمرَّغون في مرابع الصغار المحكومة بقوانين التاريخ الجبرية، ومن هنا وجه الدليل الذي لا دليل له!

 

Email