دواعي الحوار مع الطاغية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في بداية ديسمبر 2011 كتبت مقالا بعنوان "لنكف عن القتل ونبدأ الحوار من أجل سوريا"، وذلك بعد أن استطاعت السلطة الحاكمة أن تجر الثورة السلمية السورية إلى المواجهة المسلحة وبدأت رقعة هذه المواجهة تزداد يوما بعد يوم. في ذلك التاريخ كانت إمكانيات نجاح الحوار والوصول إلى المصالحة الوطنية أكبر بكثير من يومنا هذا، لأن درجة العنف والإجرام من قبل رجالات السلطة لم تكن قد وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم, من مجازر ودمار واعتقالات وتهجير.

ما كتبه رئيس الائتلاف الوطني أحمد معاذ الخطيب في صفحته الخاصة على الفيس بوك, وما أكده في مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن حول إمكانية إجراء الحوار مع السلطة الحاكمة في سوريا, يأتي في نفس السياق الذي تطرقت إليه سابقا. معاذ الخطيب وضع شروطا واضحة من أجل بداية هذا الحوار، وهي إطلاق سراح 160 ألف معتقل، وتمديد جوازات سفر السوريين في الخارج. ولم يتطرق في مبادرته هذه إلى المواجهة المسلحة التي يقودها الثوار في الداخل, بل اعتبر هذا عملا سياسيا موازيا للعمل الميداني الذي يقوم به الثوار.

للوهلة الأولى كانت المبادرة فيها شيء من المفاجأة، وكانت ردة فعلي الشخصية سلبية تجاهها, ولكنني كلما تعمقت في التفكير حولها, زادت قناعتي بأنها تتضمن كثيرا من النقاط الإيجابية، وأهمها أنها تشير إلى مرونة المعارضة، وإلى النضج السياسي الذي وصلت إليه، وتؤكد أنها قد اكتسبت خبرة في التكتيك والمناورة السياسية. بهذه الخطوة وضعت المعارضة الكرة في ملعب السلطة وأحرجتها، وأنهت بذلك تشدقها بأن المعارضة لا تريد الحوار.

مبادرة معاذ الخطيب لم تكن جديدة على الساحة السياسية, بل هي نفس الفكرة التي تم تداولها بعد أشهر قليلة من بداية الثورة، وكان على فاروق الشرع أن يقودها، ولكن السلطة قررت آنذاك أن تأخذ منحى آخر، فعملت كل ما في وسعها لعسكرة الثورة وجلبها إلى المربع الأمني يقينا منها بأنها ستخرج منه رابحة, وها نحن نرى الآن في أية ورطة وقعت. فالسلطة في الحقيقة لا تريد الحوار وتخاف من الحوار كما يخاف الشيطان من المعوذات وهي تعلم بأن الحوار سيعريها وسيكشف وجهها الديكتاتوري.

الأستاذ معاذ الخطيب كان واضحا وصريحا عندما قال إنه ليس سياسيا بل هو ثائر، وأنه تصرف حسب ما يمليه عليه ضميره ووجدانه. ومن الواضح أنه لم يرجع إلى الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني ويأخذ رأيها في ما صرح به، ولكن قراره هذا لم يأت من عبث ولم يكن ارتجاليا كما يوحي لنا في الوهلة الأولى, بل جاء بناء على ما عايشه ولمسه بنفسه من ضغوط هائلة وتقلبات سياسية كثيرة، تمارسها الأنظمة العالمية على الثورة السورية.

هذه الضغوط لها وجوه كثيرة، منها الغدر والمكر والخداع من أطراف تدعي أنها أصدقاء للثورة السورية، ومنها ما وصل حتى إلى حدود التخاذل والخيانة. هذه الضغوط كان يواجهها هو بشكل مباشر بصفته رئيسا للائتلاف الوطني السوري، وبسبب قربه من المطبخ السياسي العربي والإقليمي والعالمي واطلاعه على بعض ما يدور خلف الكواليس.

إحدى الحجج التي كانت تسوقها القوى العالمية لتبرير عدم دعمها للثورة السورية، هي أن المعارضة غير موحدة, رغم أنها تعلم صعوبة تحقيق ذلك. وعندما تم تأسيس الائتلاف الوطني في اجتماع الدوحة الأخير، والذي انضم إليه حوالي 90٪ من المعارضة السورية, رحب به كثير من المعارضين السوريين المستقلين، ووجدوا أن الوقت قد حان للانخراط في هذا المكون السياسي الجديد، لدعم ثورة الحرية والكرامة التي يخوضها الشعب السوري. لكن الذين انضموا إلى الائتلاف الوطني، كان عليهم أن يعلموا منذ البداية أن هذه الخطوة تتطلب انضباطا صارما والتزاما بالقرارات التي يصدرها الائتلاف والاستعداد لتحمل تبعاتها.

الثورة السورية تتعرض الآن إلى مؤامرة كبيرة، وللأسف أعداؤها صاروا أكثر من أصدقائها، وهنالك دول قليلة تتمنى النجاح لهذه الثورة، ودول إقليمية وعربية تخاف من انتصارها، والمجتمع الدولي أصبح شريكا في مأساة الشعب السوري، وكثير من الدول أصبحت تغير مواقفها. أما السلطة الحاكمة في سوريا فهي تحصل على السلاح المتطور وعلى المليارات من دول صديقة لها.

المعارضة السورية تعيش الآن حالة إذلال من قبل الدول التي وعدت بدعمها، وكثير من الدول الأخرى التزمت الصمت المريب وأخذت دور المتفرج على ما يقوم به سفاح سوريا وزبانيته ضد شعب أعزل.

مبادرة أحمد معاذ الخطيب حركت كثيرا من المياه الراكدة، ودفعت القضية السورية إلى واجهة الأحداث العالمية، رغم التعتيم الإعلامي المفروض عليها. وما قام به معاذ الخطيب فيه روح المبادرة والجرأة والمسؤولية، وهو يستمد قوته من الدعم الجماهيري له، وكما يقول المثل العامي "الطير يطير بريشه".

إذن، على كل من يقف في صف الثورة السورية أن يدعم مثل هذه المبادرات الجريئة، وأن يبتعد عن تخوين الآخرين وعن الحلول المتطرفة والمقترحات المتزمة. السياسة هي فن الممكن، والصراع السياسي مثل المصارعة، ففيها كذلك يمكن تحقيق الفوز على الآخر بواسطة فارق النقاط.. وليس فقط بالضربة القاضية.

 

Email