«باب الخروج».. إلى المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يرسم الروائي المصري عز الدين شكري فشير في روايته "باب الخروج"، صورة قاتمة لمصر ما بعد الثورة؛ مرحلة من عدم الاستقرار وتعاقب للحكومات، ومؤامرات حزبية لا تنتهي، على وقع ثورات شارع وجياع مستمرة، وضحايا تتساقط في كل مرحلة، تنتهي إلى استلام عسكري قديم للحكم. لا يقدم الحاكم العسكري حلولاً لمشكلات مستعصية، بل يقوم بتدويرها ويُقدم على مغامرة مجنونة لامتلاك أسلحة نووية.

تتماهى المخليلة الأدبية مع مجريات الواقع المصري بعد الثورة، إلى حد لا يعود فيه مجال للشك أن فشير مدرس العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، إنما يقدم رؤية سياسية في سياق روائي، لمستقبل قريب قد لا يصعب التكهن به للكثير من المصريين وغير المصريين. هل يكفي هذا لتفسير تصدر الرواية قائمة أكثر الكتب مبيعاً في مصر في الشهور التي أعقبت صدورها؟ ربما، فهي في النهاية محاولة للإجابة عن أكثر الاسئلة إقلاقاً لأي مصري ومصرية: إلى أين نسير؟

لكن دعونا نحاول البحث عن إجابات للأوضاع المصرية المقلقة، عبر تصور سيناريو آخر للأحداث. تصور آخر يطرحه هذا السؤال: ماذا لو أن الإخوان المسلمين بادروا إلى مقاربة غير هذه التي ساروا فيها عقب فوزهم في انتخابات مجلس النواب والرئاسة؟ بمعنى آخر؛ لو أنهم بادروا إلى وضع مقومات دولة ديمقراطية ونظام تشريعي يتيح تداولاً سلمياً للسلطة، واضعين في حسبانهم أنهم قد يخرجون من الحكم وقد يعودون إليه، مثلهم مثل باقي القوى والأحزاب السياسية الأخرى، ورسخوا استقلالية القضاء وحرية التعبير. وزادوا على ذلك بتحقيق مصالحة حقيقية، تتيح للمجتمع المصري بأكمله أن يتعافى من تركة الماضي الثقيلة بكل ما فيها من آلام. بكلمات أخرى؛ لو أنهم فضلوا إرساء أسس استقرار سياسي عوضاً عن السعي لإحكام قبضتهم على السلطة؟

ما هو واضح الآن، هو أن الإخوان المسلمين آثروا الخيار الثاني، وأخذوا يتصرفون كما لو أنها المرة الأولى والأخيرة التي يصلون فيها إلى السلطة، وكما لو أنها الفرصة التي انتظروها 83 عاماً ولن تتكرر أبداً. فاللهفة والتسرع والارتباك مع كثير من التخبط، هي أبرز ما يميز حكم الإخوان المسلمين لمصر، منذ أن تقلد الرئيس محمد مرسي سدة الرئاسة منتصف العام الماضي. فمنذ أن تسلم مرسي الرئاسة وحتى اليوم، لم يعلن ولو من باب الالتزام بتقاليد رجال الدولة، أنه قام بدراسة أية ملفات من أي نوع، اقتصادية أو عسكرية أو أمنية أو اجتماعية، فور تسلمه الرئاسة، بل بدا في كل حركته أن ثمة خيارات جاهزة لا تنتظر سوى التنفيذ. لم يصدر أي تصريح أو إعلان، لا من الرئيس ولا من حزبه ولا من الإخوان المسلمين، حول برنامج أو رؤية للتنمية "الاقتصادية/ الاجتماعية"، في بلد ثلث سكانه على الأقل تحت خط الفقر. والتطمينات الأولى التي صدرت عن أقطاب الإخوان المسلمين غداة فوزهم في انتخابات البرلمان وتلك التي ألحقها الرئيس مرسي غداة فوزه، سرعان ما تآكلت تحت وطأة مساعٍ محمومة للهيمنة على جهاز الدولة ومفاصل السلطة، دفعت بحالة الاستقطاب في مصر إلى أبعد الحدود.

قد تكون هذه نظرة مراقب خارجي، والجواب الذي ينتظره المصريون عن المستقبل قد يتضح بعض ملامحه، إلى حد بعيد، مع محاولة فهم الكيفية التي يتصرف بها الإخوان المسلمون منذ أن تسلموا الحكم. لكن الوجهة التي تسير بها مصر تبدو مقلقة، لا للمصريين فحسب، بل للعرب أيضاً وباقي العالم، بدرجات متفاوتة من الاهتمام.

إن المعارضة المصرية تخوض معاركها السياسية الآن، وشعار إسقاط حكم الإخوان بتنويعاته الأخرى (إسقاط حكم المرشد، مواجهة أخونة الدولة)، يمثل شعاراً عاماً مركزياً يختزل شعاراتٍ وأهدافاً متنوعة، سياسية واجتماعية ومطلبية، وتلك المتصلة بمعركة الحريات العامة والفردية. وإذا كانت معارك الحريات والمعارك المطلبية للعمال والموظفين والمهنيين والفقراء، ومعارك الدفاع عن استقلال القضاء والإعلام، أمراً طبيعياً لا مناص منه في مرحلة بناء الديمقراطية وما فيها من اجتهادات مختلفة، فإن شعار "إسقاط الإخوان" قد يثير التباسات، لا في أذهان الإخوان المسلمين أنفسهم وعموم الإسلاميين، بل في أذهان عموم المصريين. التباسات لا حصر لها تعطيها صدامات الشوارع والضحايا الذين يتساقطون، معاني بعيدة ومغايرة عن الجوهر السلمي للديمقراطية.

 فما يجري في مصر لا يدع مجالاً للشك في أن الفرقاء السياسيين، من حزب حاكم وأحزاب معارضة وقوى اجتماعية، هم أسرى لحالة من التربص تدفعهم للصدام دوماً، لهذا يكثر الحديث عن المليشيات الخاصة والتخريب والقتل والبلطجة، وعن طرف ثالث يسعى للتأزيم دوماً. لقد حولت حالة التربص هذه، الحياة السياسية بأسرها في مصر إلى مشهد خداع بصري، فثمة انفصام واضح بين الحياة السياسية وبين مجريات حياة يومية تحكمها حقائق لا ترحم، لهذا تبدو كل مساعي الحوار ومحاولة الوصول إلى اتفاق تاريخي يعيد الاستقرار ويقنن شروط الصراع السياسي في مجتمع ما بعد الثورة، مساعٍي إعلامية تفتقد الجدية اللازمة التي تحقق إجماع الحد الأدنى.

يتعين التفكير في سيناريوهات محتملة للخروج من هذا الوضع، أبرزها: ماذا لو أن الانتخابات النيابية المقبلة شهدت تراجعاً للإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً؟ وماذا لو تلت ذلك في العام 2016 هزيمة الرئيس مرسي أو أي مرشح للإخوان والإسلاميين وفوز أحد خصومهم؟ هل سيكرر الإخوان والإسلاميون نفس هذا السيناريو القائم في مصر منذ منتصف 2012 من باب الانتقام؟ هل سيصبح الشعار "إسقاط حكم الليبراليين" مثلاً؟

هنا تبدو قراءة رواية "باب الخروج" تمريناً ذهنياً لا بأس به، يمكن أن يدفع للتفكير في المستقبل بعيداً عن ذهنية التربص. وأبسط ما يمكن التأمل فيه، هو الآمال المتجددة في لحظات التأزم دوماً حول الجيش كمنقذ، فهي نفسها التي تؤول إليها أحداث الرواية. فهل يبقى مصير مصر مرهوناً دوماً بيد المؤسسة الوحيدة المتماسكة في كل التاريخ المصري؟ منذ عهد محمد علي باشا على الأقل؟

قد تكون مفيدة أيضاً قراءة روايات جورج أورويل، خصوصا "مزرعة الحيوانات"، لكي ندرك أن الحساسية الروائية رغم الخيال الخصب، غالباً ما تصدر من حقائق شديدة الواقعية إلى حدود غير متصورة.

 

Email