القيادة الصينية ووعود الإصلاح

ت + ت - الحجم الطبيعي

مضى على الحزب الشيوعي الصيني أكثر من ثلاثة وستين عاما في السلطة، وقد شهدت تلك الفترة الكثير من الإيجابيات، وتعرض الحزب خلالها لكثير من الانتقادات الحادة، نظرا لكثرة الوعود بتصويب المسيرة والتخلص من السلبيات.

وقد اعتبر تقرير المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، الذي عقد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2012، بمثابة برنامج عمل للقيادة الصينية الجديدة، التي وعدت الشعب الصيني مجددا بتحقيق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، انطلاقا من الإنجازات التي حققتها سياسة الانفتاح والإصلاح منذ العام 1978.

ومع تسلم القيادة الجديدة مهماتها رسميا، يواجه الحزب عقبات كبيرة لمواكبة عالم دائم التغير. وبعد الانفتاح مؤخرا على شعارات الديمقراطية، والليبرالية، والمبادرات الفردية، مل الصينيون الحديث عن نظام اشتراكي بخصائص صينية، يتولى فيه الحزب منفردا اتخاذ القرارات الخاصة تحت يافطة التغيير التدريجي لصالح الجماهير الشعبية، ونيابة عنها في غالب الأحيان.

دعا التقرير المناطق الأكثر تطورا إلى القيام بالتحديث الريادي، والإسهام المتميز في عمليات الإصلاح والتنمية على المستوى الوطني الشامل، وطالب بفرض آلية جديدة لنمط النمو الاقتصادي بوتيرة متصاعدة، وإصلاح البنى التحتية، وتبني خيارات جريئة حاسمة، بالاستناد إلى فهم علمي دقيق حول بناء مجتمع مزدهر، يعتمد كافة أوجه الإصلاح والانفتاح.

لا بد إذن، من بذل المزيد من الجهود، واستكشاف طرق جديدة لتنفيذ استراتيجية التنمية التي تساعد على الابتكار، وتعديل البنى الاقتصادية وفق رؤية استراتيجية شمولية، ودمج التنمية المدينية بالتنمية الريفية، واستحداث طرائق جديدة في التعاون والمنافسة على مستوى الاقتصاد الدولي وفق متطلبات التنمية العلمية، وبناء مجتمع المعرفة في الصين.

لقد حققت سياسة الإصلاح والانفتاح السابقة إنجازات كبيرة خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أنها باتت اليوم بحاجة إلى مواقف شجاعة من قيادة الحزب، لإجراء تعديلات جذرية على تلك الخطط بما يتلاءم مع طبيعة عصر العولمة، وتحدياتها، والموقع المتقدم للصين فيها.

فلم يعد النمو المضاعف الذي سجلته الصين حتى الآن، موضع إشادة من جانب نسبة كبيرة من الجماهير الصينية، بسبب الشعور المتزايد لدى عدد كبير من الصينيين بأنهم يتعرضون الآن لمشكلات اجتماعية خطيرة في حياتهم اليومية، لأن سياسة النمو السريع كانت تهدف إلى جني ثروات كبيرة خلال فترة قصيرة.

فالغذاء السيئ، والأدوية المغشوشة، وحوادث العمل، والفساد الرسمي، والتدهور البيئي، وزيادة فجوة الدخل بين الصينيين، وبروز طبقة الأثرياء الجدد، وتراجع القيم الأخلاقية على مختلف الصعد.. تنذر مجتمعة بآفات اقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة.

لذلك يطالب الصينيون القيادة الجديدة، بتحديد المسؤولين عن تلك الآفات الاجتماعية الناجمة، ومعاقبة من شجعوا على تعظيم الثروات من خلال تشجيع النمو السريع. وبات على القيادة الجديدة إيجاد حلول علمية للتنمية الاقتصادية المتوازنة، من خلال إدارة شفافة وذات كفاءة عالية، لمعالجة المشكلات الاجتماعية الناجمة عن النسب المرتفعة للنمو الاقتصادي.

وهي مطالبة أيضا بوضع استراتيجية جديدة في الصين، تتبنى أفضل الطرق العلمية لتحقيق تنمية سليمة تقيم التوازن بين النمو الاقتصادي المتنامي دوما والإصلاحات الاجتماعية المرافقة له.

فما زالت الصين دولة نامية، لا بل أكبر الدول النامية، وقد تحافظ على هذه الصفة لعقود إضافية، نظرا لحجم سكانها وهو الأعلى في العالم، ولاتساع مناطقها الجغرافية، وتنوع مناخها، وكثرة الكوارث الطبيعية التي تتعرض لها سنويا.

وليس من شك في أن الفشل في تلبية الاحتياجات المادية والثقافية المتنامية لدى الصينيين، يصيب عملية الإصلاح في الصميم، ويولد مشكلات اجتماعية حادة لا بد من التنبه إليها والتحذير من مخاطرها.

القيادة الصينية الجديدة التي تولت حكم الصين للسنوات العشر القادمة، مدعوة إذن إلى توفير قوة دفع إضافية للاقتصاد الصيني، انطلاقا من رؤية استراتيجية تؤكد أن الصين ستلعب دورا هاما على المستوى الدولي، كدولة كبيرة ومسؤولة عن مواجهة تحديات العولمة.

وعليها أن تثبت كفاءة عالية في إدارة شؤون الصين الداخلية، لكي تستطيع ممارسة دورها المتقدم في النظام العالمي الجديد. وقد وعدت الشعب الصيني بزيادة دخل الفرد، ومكافحة الفساد، وتعزيز بناء الحزب على أساس الكفاءة الشخصية، والشفافية في ممارسة المهام السياسية والإدارية.

بقي أن نشير إلى أن تداعيات الأزمة المالية على المستوى العالمي ستستمر لأعوام عديدة، ولذلك يتعين على الصين الحفاظ على نمو اقتصادي مستمر بوتيرة سريعة نسبيا، ودفع عملية الإصلاح الإداري، والتربوي، والثقافي، وإعادة هيكلة البنى الاقتصادية، لتجنب تنمية اقتصادية غير مستقرة، وغير متوازنة، وغير مستدامة، بالإضافة إلى ضرورة تطوير النظام السياسي القائم، بهدف تنمية الديمقراطية بصورة تدريجية، وضمان العدالة الاجتماعية، والنزاهة، وحماية الحريات الفردية والعامة، وضمان الحقوق المتساوية لجميع طبقات الشعب الصيني، وإفساح المجال أمام مبادرات الصينيين الإبداعية.

هذا بالإضافة إلى بذل المزيد من الجهود لتحسين مداخيل السكان، وتضييق الفجوة المادية والثقافية بين المدن والأرياف، وتطوير خدمات الضمان الاجتماعي، ومعالجة الاختلال الحاد في توزيع المداخيل بين الصينيين، ومنح أولوية لمكافحة الفساد الذي بات يشكل مأزقا حقيقيا يهدد وجود الحزب في السلطة، كما يهدد مؤسسات الدولة نفسها.

ومن أولى مهمات القيادة الجديدة في السنوات الخمس القادمة، الإسراع في بناء مؤسسات فاعلة وقادرة على مكافحة الإثراء غير المشروع، عبر الحكم النظيف، وضمان نزاهة المسؤولين.

وتتحمل القيادة الجديدة المسؤولية الأكبر في ضمان أمن الصينيين ومستقبل الأجيال القادمة، وهي مسؤولية جماعية تقوم على كفاءة قيادة الحزب الجديدة في تعزيز الديمقراطية، وتحسين أداء المؤسسات القانونية بما يضمن تنفيذ حكم القانون.

ختاما، تواجه الصين اليوم الكثير من المشكلات المعقدة، والتي تتطلب الاستمرار في عملية الاصلاح والتنمية، وفق رؤية استراتيجية واضحة. ولعل أبرز المهام الفورية التي طرحتها القيادة الجديدة على نفسها، تكمن في أولوية مكافحة الفساد الذي يشكل تحديا خطيرا للقيادة الصينية، واستقرار الاقتصاد الصيني، والتوزيع العادل للدخل وللخدمات الاجتماعية، وزيادة الناتج المحلي في الصين، وإقامة التوازن بين سكان المدن والأرياف، خلال فترة زمنية لا تتجاوز العام 2020، والتمسك بمسار الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، والقيام بالإصلاحات السياسية التي تساعد على نشر الديمقراطية بطريقة سلسة ومتدرجة، ورفع مستوى المعيشة، وتحقيق التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. فهل تتحقق تلك الأهداف أم تبقى مجرد شعارات متنقلة من مؤتمر إلى آخر؟

Email