نحو مواجهة ديمقراطية مع القوى التسلطية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ عقود طويلة، تجند عدد كبير من المتنورين العرب لتقديم الديمقراطية، في النظرية والممارسة، كحل للمشكلات التي يعاني منها العالم العربي على مختلف الصعد السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية وغيرها.

وطرحت صيغ متعددة منها الديمقراطية التوافقية على الطريقة اللبنانية، والشوراقراطية التي حاولت الجمع بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية، والبدوقراطية التي حاولت الجمع بين التقاليد الإيجابية لمجالس الشورى البدوية وبعض سمات الديمقراطية الغربية.

لكن تلك المحاولات باءت جميعها بالفشل، نظرا لبقاء العصبية الدينية والعصبية القبيلة ركيزتين أساسيتين في بناء الدولة التسلطية التي فشلت، على امتداد العالم العربي، في حل إشكالية المواطنة والانتقال من الانتماء القبلي والطائفي إلى الانتماء الوطني، في دولة القانون والمؤسسات التي يتمتع فيها جميع المواطنين بالحريات العامة والخاصة، وحقوق الإنسان الأساسية، والمساواة التامة، دون تمييز في الجنس أو الدين أو الانتماء السياسي والثقافي.

على الجانب النظري، طرحت أسئلة منهجية كثيرة عن الأسباب العميقة التي أدت إلى فشل التنظيمات السياسية العربية في تبني الديمقراطية في الوطن العربي، في حين وجدت الديمقراطية في الدول الغربية بيئة ملائمة لاحتضانها، فتطورت في أكثر من دولة أوروبية، ثم على المستوى الكوني، وتحولت إلى ثقافة عامة في الدول التي تعتبر أن الديمقراطية ليست مجرد مفهوم سياسي متطور، بل منهج في التفكير السليم، وأسلوب عقلاني في العمل السياسي، وليس صيغة جامدة مقتبسة من الخارج.

بعد فشل التجارب الديمقراطية العربية، نمت العصبيات الطائفية والقبلية بسرعة مذهلة. فباتت الديمقراطية اليوم محاصرة في المجتمعات العربية، وعليها أن تدافع عن نفسها بقوة، في مواجهة الذهنية التسلطية التي تحاول إرجاع العالم العربي سنوات إضافية إلى الوراء، بحيث تنسف جميع ركائز التغيير الإيجابي فيها، لتصبح عاجزة بالكامل عن مواجهة تحديات العولمة.

وتحت تأثير تلك العصبيات، أنتجت البيئة الاجتماعية العربية منظومة ثقافية بالغة الخطورة، لأنها تمجد العنف وترفض التعددية والتنوع والاعتراف بالرأي الآخر. فشكلت مجتمعة سمات مشتركة للقوى السياسية المسيطرة على المجتمع العربي المعاصر، تتصف بالذهنية التسلطية المعادية لكل المفاهيم العقلانية التي أنتجها الفكر العربي خلال تاريخه الطويل، أو الوافدة من الخارج.

لكن منظري تلك الطبقة فشلوا على المستوى النظري، في تقديم إضافات جديدة في علم الاجتماع السياسي العربي. كما فشلوا على المستوى التطبيقي، في المواءمة بين مفهومي الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية. ورغم الموارد المالية الهائلة، فشلت القوى التسلطية العربية في بناء دولة مركزية قوية وعادلة، ونظام سياسي واقتصادي ينشر التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة على امتداد المناطق العربية.

مؤخرا، زادت حدة الاحتقان الطائفي بصورة غير مسبوقة، مما استدعى رفع الصوت عاليا لتتحمل النخب العربية المتنورة مسؤولية تنظيم الجماهير الشعبية، والقوى الشبابية والنسائية، للدفاع عن وجودها وعن مستقبل الأجيال العربية القادمة. وبات عليها مواجهة الانقسامات، التي تزداد حدة وتهدد بقاء الدولة المركزية الموحدة في أكثر من منطقة عربية.

وبسبب هذا الاحتقان الذي تزامن مع صعود قوى سياسية تسلطية في زمن "الربيع العربي"، أصيبت القوى العربية المتنورة، خاصة الشبابية والنسائية، باليأس من التغيير الجذري والشامل. فعملت على توحيد قواها لدرء المخاطر المحدقة بها من كل جانب، والتصدي للقوى التسلطية الجديدة التي تحاول دفع المجتمعات العربية إلى الانتحار البطيء.

لقد بدا واضحا أن مواجهة القوى التسلطية في الحكم، تحتاج إلى إطلاق مبادرات متواصلة على نطاق واسع، لتشكيل قوة سياسية شعبية قادرة على إسماع صوتها، وبناء تيار وطني جامع في كل دولة عربية، لفرض إصلاح حقيقي وشامل ينقذ المجتمعات العربية من مخاطر الانفجار والتفكك.

وذلك يتطلب برنامج عمل يطال جميع القوى ذات المصلحة في الحفاظ على السلم الأهلي، والاستقرار السياسي، وتعزيز الوحدة الوطنية، ورفض ثقافة الإلغاء والعنف الدموي، المتبادل بين قوى السلطة وقوى المعارضة.

ونجاح قوى التغيير في مواجهة القوى التسلطية رهن بوقف ظاهرة التسلح، ومنع استخدام السلاح بين أبناء الوطن الواحد، وحصر ظاهرة الكفاح المسلح في العمل على تحرير فلسطين واستعادة الأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل، واعتماد توجه إنساني على غرار الفيتناميين، الذين حملوا البندقية وشاركوا في المفاوضات لإفساح المجال أمام حل سلمي للصراع المزمن. وذلك يتطلب سياسة دفاعية عربية، في مواجهة المشروع الصهيوني الذي يهدد جميع العرب.

ومع إعادة إنتاج القوى التسلطية، تنتفي كل أشكال الديمقراطية ويهيمن زعماء الطوائف على المجتمع باسم الدين، وزعماء القبائل باسم العصبية القبلية. ويدور العالم العربي في حلقة مفرغة، بين قوى تسلطية مسيطرة بالقوة، وقوى ديمقراطية مغيبة، بسبب هيمنة النزعة الدينية والقبلية والعسكرية، التي تشكل اليوم السمة الأساسية للمجتمع العربي المعاصر.

وهي تفرز المزيد من النزاعات بين القوى التسلطية والقوى الديمقراطية. وتستخدم القوى التسلطية العنف الدموي لتعزيز سيطرتها بالتحالف مع القوى العسكرية، مما يساعد على إبقاء المجتمع الأهلي نقيضا للمجتمع المدني. فما زال المجتمع الأهلي غير خاضع لسلطة الدولة في أكثر من بلد عربي، في حين يعتمد المجتمع المدني على الدولة المركزية القوية وتعتمد عليه. أما المؤسسات العصرية في الدولة الضعيفة.

فتبقى هامشية وغير مستقرة، خاصة إذا بقيت مؤسسات المجتمع الأهلي، خاصة الطائفية والقبلية، قوية ومتماسكة في ظل أنظمة تسلطية تعزز حكمها عبر القبيلة، والمؤسسات الدينية، وكبار التجار، وزعماء الطوائف.

ختاما، غالبا ما شكلت المؤسسة الدينية في الدولة التسلطية، امتدادا لسلطة الدولة التي تمنحها صلاحيات واسعة للرقابة على الناس، والكتب، والفنون، والمطبوعات، والمسرح، والأغاني، والنوادي الفكرية. لذا يبدو الأمل ضعيفا في إحداث أي تغيير إيجابي، في ظل الدولة التسلطية العربية. فالتغيير بحاجة إلى نضالات متواصلة، لتوليد جيل عربي جديد يقيم التوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويكون قادرا على مواجهة القوى التسلطية وتحديات العولمة معا.

 

Email