من يغرر بفرنسا في إفريقيا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

فرنسا على عكس الكثير من دول أوروبا ما زالت تحن إلى عصر ما قبل التحرر من الاستعمار الذي انقضى عهده والذي اعترف العالم بنهايته كما انتهى قبله تاريخ الرق وسياسة العنصرية. حتى العالم العربي الذي يعتبر الأكثر تمسكاً بالموروثات، شرع في التغيير.

وعندما نقول تغيير، فهذا يتعدى التغيير المادي والسياسي أو في نظام الحكم. فالتغيير ليس في تغيير الحاكم، بل في تغيير الفكر.

وما كان للثورات العربية أن تنجح لولا وجود فكر جديد بدأ ينتشر بسرعة البرق في المجتمعات العربية ولا أحد ينكر فضل الوعي الثقافي بفضل تطور تكنولوجيا الإعلام الذي أيقظه ومن ثم ساعده في تحقيق هذا التغيير. ومع ذلك، لم تستطع فرنسا من حيث التفكير السياسي التخلص من حنينها إلى عصر اعترف الجميع بأنه لم يعد يماشي التمدن والتطور.

توضع فرنسا في الصف الأول بين الدول التي تدافع عن حقوق الإنسان، إلا أن الأحداث التي وقعت وما زالت قد تؤثر كثيراً في هذا الاعتقاد. لا يكفي أن ندعي الثقافة ثم نتصرف بطريقة معاكسة. ولا يكفي أن ندعي الحرية ونتصرف كالأسياد على مصير الفقراء.

لا أحد ينكر أن فرنسا دعمت الشعب الليبي للتخلص من نظام القذافي. لكن الأخبار اليوم تكشف بأن الدافع الحقيقي وراء التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا بتشجيع من بريطانيا إنما كان لأهداف باتت معروفة للجميع وأنه لا علاقة لهذا التدخل لا من قريب ولا بعيد بتحرير الشعب الليبي من النظام السابق وإنما لحاجة في نفس فرنسا.

بدأت تتحدث التقارير والوثائق واعترافات بعض الشخصيات التي كانت لها علاقة مباشرة مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (الذي كثرت عليه التساؤلات بعد هزيمته في الانتخابات الرئاسية) عن حصوله على ملايين الدولارات من العقيد القذافي لدعم حملاته الانتخابية.

وبدأت وسائل الإعلام تتحدث عن الاتفاقيات الاستثمارية والنفطية بمليارات اليورو التي أبرمت مع ليبيا ما بعد القذافي. وأخذت بريطانيا حصتها في الكعكة كشريك.

أي أن نيات الولايات المتحدة الأميركية في غزو العراق لاحتلال منابعه النفطية (وليس كما أشيع عن نيتها إسقاط نظام حكم مستبد ودكتاتوري) أصبحت تمارس بمقياس أصغر من قبل فرنسا.

لا أحد ينكر أن لفرنسا مستعمرات ما زالت شعوبها بسبب التخلف الثقافي تؤمن بتفوق الأبيض، لكن هذا لا يعني أن يتم استغلالها ووضع اليد على مواردها القليلة. قد لا نحاسب أميركا على تصرفاتها، لأنها عودتنا على ذلك، ولكن فرنسا؟ وحقوق الإنسان؟ وأدباءها العظام؟ ويجوز أن نصرف النظر عن ماضيها لأن معظم الدول الأوروبية كانت تلهث خلف المصالح المادية في آسيا وأفريقيا، ولكن فرنسا القرن الواحد والعشرين؟ وفي أقل من سنة تدخل فرنسا حرباً عسكرية ثانية في أفريقيا وتحديداً في جمهورية مالي.

الكل متفق على وجوب وقف تقدم جحافل الأصوليين المدعومين من بقايا القاعدة التي تطمح إلى الاستيلاء على مساحات شاسعة من هذه الجمهورية، بشرط بقرار من الأمم المتحدة.

غير أن تدخل فرنسا له أطماع أبعد بكثير عن مجرد التصدي للقاعدة. ونتساءل لماذا في المقابل لا تتدخل فرنسا عسكرياً لدعم حرية أكراد تركيا؟ أو الأقليات المسلمة في ميانمار؟ أو الفلسطينيين في غزة بل تصمت تماماً أمام ممارسات الاستيطان في فلسطين؟ وغيرها...

الرئيس فرانسوا هولاند، صرح من أبوظبي بأن بلاده لا تنوي البقاء طويلاً هناك. ونرجو ألا يكون هذا التصريح يحمل النية نفسها التي بيتتها الولايات المتحدة الأميركية في غزو أفغانستان ومن ثم العراق!

الإعلام الفرنسي وعلى رأسهم بعض السياسيين الفرنسيين بدأوا بإثارة قضية مهمة جداً، تتلخص في مدى شرعية هذا التدخل العسكري الذي لم يحصل مسبقاً على موافقة البرلمان الفرنسي ولا قرار من مجلس الأمن.

تحية لمواقف فرنسا الإنسانية، ولكن يصعب على مثقفي العالم قبول أن تظل فرنسا تركض خلف بريق الهيمنة الاستعمارية التي ولى زمنها. هناك دول غربية قريبة وبعيدة منها أرادت أن تضع لها هذا الطعم في أفريقيا وتورطها في متاهات عسكرية قد لا تخرج منها إلا كما خرجت من عمليتها العسكرية الأخيرة في الصومال لتحرير رهينتها.

 

Email