مضامين الربيع الفلسطيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أظن أن القيادات الفلسطينية تخطئ قراءة دوافع ومعاني الحشد الشعبي العارم، الذي خرج في الرابع من يناير الجاري، إلى ساحة السرايا وسط مدينة غزة، احتفالاً بالذكرى الثامنة والأربعين لانطلاقة حركة فتح، وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة.

وفق أقل التقديرات الموضوعية، يكون أكثر من ثلث سكان قطاع غزة، البالغ عددهم نحو مليون وسبعمائة ألف نسمة، خرجوا إلى الشوارع، من كافة الأنحاء، في مشهد لم يقع لا في الأراضي المحتلة، ولا في أي بلد عربي، لا في زمن "الربيع"، ولا في أزمان الخريف.

قد يبدو للبعض أن هذا المشهد يشير إلى حالة انحباس جماهيري، تصل حد الاختناق بعد حوالي ست سنوات من الانقسام، الذي قيد حركة فتح في غزة، وحركة حماس في الضفة الغربية.

قبل احتفال حركة فتح بانطلاقتها في قطاع غزة، كانت حركة حماس قد احتفلت على نطاق واسع في مختلف مدن الضفة بانطلاقتها الخامسة والعشرين، وكانت الجماهير الفلسطينية قد أقامت فعاليات اشتركت فيها أطياف العمل السياسي والحزبي، احتفالاً بالإنجاز الذي حققته المقاومة خلال تصديها الناجح للعدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع، وبالإنجاز السياسي الذي حققته منظمة التحرير والسلطة في الأمم المتحدة بحصول فلسطين على مكانة دولة غير عضو.

الخروج الشعبي العارم لسكان القطاع في مناسبة انطلاقة فتح والثورة، جاء تتويجاً لظاهرة احتفالية شملت كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتقدم أقوى الإشارات على رفض الجماهير الفلسطينية لحالة الانقسام، أسباباً وواقعاً وتداعيات، ولتؤكد أن الجماهير الفلسطينية تنتظر من قياداتها الوفاء بما تخلل خطاباتها من تعهدات بإتمام المصالحة في أقرب الآجال. كان الأمر أشبه باستفتاء شعبي حاسم لصالح الوحدة. وإذا كان ذلك الاستفتاء قد أكد رفض الجماهير الكاسح لاستمرار حالة الانقسام، فإنه أيضاً أكد على القضايا الآتية:

أولاً؛ إن مضمون الربيع الفلسطيني الذي يجري الحديث عنه، يبتعد عن أشكال وأهداف الربيع العربي، إذ إن الجماهير الفلسطينية لا تسعى للإطاحة بحركة حماس أو حركة فتح، طالما أن هذه الفصائل ملتزمة بالنضال من أجل تحقيق الأهداف الوطنية.

ثانياً؛ في ضوء طبيعة المرحلة السياسية بما أنها مرحلة تحرر وطني أساساً، فإن الجماهير الفلسطينية أظهرت وعياً يفوق وعي قياداتها، ولذلك فإن هذه الجماهير ترفض تقديم التعارضات الداخلية الثانوية على التناقض الرئيسي مع الاحتلال. لقد كان الانقسام بمظهره الرئيسي ووسائل وقوعه، انحرافاً عن قاعدة ومبادئ إدارة الصراع، الذي يفترض تركيز الجهد النضالي ضد التناقض الرئيسي المتمثل في الاحتلال.

ثالثاً؛ أرادت الجماهير أن تعبر بصورة لا تقبل التأويل، عن رفضها الكاسح للاحتكار السياسي ومنهج الإقصاء، الذي ساد الساحة الفلسطينية خلال مرحلة الانقسام، وترفض بالقوة ذاتها نهج القمع الداخلي وانتهاك الحريات والحقوق، الذي ساد هو الآخر خلال مرحلة الانقسام. يشير هذا الدرس إلى ضرورة أن تولي القيادات السياسية اهتماماً حقيقياً وملموساً، بتحقيق توازن معقول بين مهمات التحرر الوطني، والمهمات الديمقراطية التي تتصل بتعزيز عوامل الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي الذي لا يتوقف.

رابعاً؛ يعبر الخروج الشعبي العارم عن تمسكه واحترامه لتاريخ الكفاح الفلسطيني، ولمنظمة التحرير الفلسطينية ممثله الشرعي والوحيد، وللبرنامج والنهج الوطني، في ضوء سياسات الأفكار، والبحث عن بدائل موازية. وبطريقة غير مباشرة، تسجل الجماهير الفلسطينية احترامها وتمسكها بكافة أشكال النضال، بما في ذلك النضال المسلح والسياسي..

خامساً؛ ثمة مجموعة أخرى من الرسائل التي أرادت الجماهير الفلسطينية التي خرجت عن بكرة أبيها في قطاع غزة، أن توجهها لإسرائيل، وللمحيط العربي والمجتمع الدولي، مفادها أن الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن أهدافه الوطنية وحقوقه، ولن يتخلى عن قياداته وفصائله، وهو مستعد لأن يعزز وحدته ونضاله ضد المشاريع والمخططات الإسرائيلية.

الجماهير التي خرجت في قطاع غزة، أرادت أن تقول للقيادات السياسية التي لا تمتلك بعد إرادة المصالحة والوحدة، أن الشعب موحد رغم الانقسام، وأنه مستعد لأن يفرض إرادة الوحدة على المنقسمين، وأنه لن يتسامح مع من يتحمل المسؤولية عن الانقسام وعن استمراره لفترة أطول. والسؤال بعد كل هذه الدروس هو؛ هل نجحت الجماهير الفلسطينية في أن تفرض على قياداتها مراجعة حساباتها على نحو يؤدي إلى تغيير واقع الحال الفلسطيني؟

لا شك في أن القيادات السياسية لا يمكنها تجاهل هذه الدروس، وإلا كان عليها أن تدفع الثمن في حال استمرت على السياسات ذاتها. ولكن هل تصل عملية مراجعة الحسابات إلى تحقيق مصالحة وطنية تقود إلى استعادة وحدة المؤسسة والقرار؟ لقد اجتمعت القيادات السياسية في القاهرة بدعوة من الرئيس المصري محمد مرسي، بهدف دفع عملية المصالحة، ولكن ثمة خشية من ألا تتجاوز هذه المصالحة حدود إدارة الانقسام، وصياغة شراكات لا تذهب إلى عمق استحقاقات الوحدة الوطنية الشاملة والراسخة.

 

Email