السلطة السورية عود على بدء

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يترك الرئيس الأسد للعبر بقية في خطابه الذي ألقاه في دار الأوبرا في دمشق يوم الأحد الماضي، حيث أعاد الأزمة السورية إلى أيامها الأولى دون أدنى تعديل جوهري، وكأن الزمن هو شهر مارس 2011، وكأن لا شيء استجد خلال السنتين الماضيتين، فقد ألقى المسؤولية كلها على (الإرهابيين والمتعاملين مع الخارج)، وعلى الدول العربية التي (تغذي الإرهاب) وتشجع المعارضة السورية على التطرف وعلى (العمالة) وأخيراً على بعض الدول الأخرى التي تشن حرباً غير معلنة على سوريا.

أعلنت وكالة الأنباء الرسمية عن الخطاب قبل يوم واحد من إلقائه، واعتقد مراقبون عديدون، وسياسيون سوريون، وقادة حراك مجتمعي، كما قادة بعض فصائل المعارضة، فضلاً عن المحللين خارج سوريا أن الخطاب سيحمل في طياته مبادرة جدية وجديدة لحل الأزمة السورية، تنطلق من رؤيا شاملة وواسعة الطيف للواقع، وترتقي إلى أن تجعل الرئيس بموقع الحكم لا الطرف، وتضعه على رأس التيار المعتدل الذي يعمل بمسؤولية للوصول إلى حل، والمهموم بحل الصعوبات بل والكوارث والمذابح التي يواجهها شعبه، إضافة إلى أن معظم المراقبين في الداخل والخارج، وأطراف المعارضة، والسياسيين العرب والأجانب، كانوا ينتظرون أن تشمل مبادرة الرئيس المحتملة اقتراحات لتغيير بنية النظام، وترسم خارطة طريق من شأنها نقله إلى نظام ديمقراطي تعددي تداولي، وتوقعوا أن يعلن الرئيس قبوله بالتفاوض مع أبناء شعبه: مع الحراك المجتمعي، وتيارات المعارضة، والتيارات السياسية جميعها، من خلال مؤتمر يضم مختلف قوى وفعاليات الشعب السوري السياسية، ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، ومن في حكم هذه الفئات، كما يعلن التزامه المسبق بما يتوصل إليه المؤتمر، وبتنفيذ قراراته مهما كان مضمونها أو نوعها، وعليه توقعوا بأن يعلن وقف إطلاق النار، وبتعبير أدق وقف تدمير المساكن على رؤوس أصحابها، والقتل على الهوية، وإطلاق سراح المعتقلين، ويضع كلفة الإمكانيات تحت تصرف حكومة وحدة وطنية، ويفوضها بأن تتخذ ما تراه من أجل تفكيك الأزمة، ووضعها في طريق الحل. إلا أن ما عرضه الرئيس الأسد كان مختلفاً جداً عما توقعته معظم الأطراف بمن فيها الطرف الموالي (ربما باستثناء أصحاب القرار) الذين يشتبه البعض بأنهم كانوا وراء موقف الرئيس المتطرف وبالتالي إضاعة فرصة هامة متاحة.

وضع الرئيس الأسد المسؤولية كلها على (قوى الإرهاب) أي المعارضة وعلى من يدعمها من الدول الخارجية، واتهم المعارضة السورية بالعمالة بإجمالها، لأن منها من هو موجود في الداخل ولكن صلاته وأهواءه خارجية، ولم يتقدم بأي نقد لا لسلوك النظام (بجيشه وقواه الأمنية)، والأهم أنه تجاهل كلياً أن سبب الثورة السورية (التي رفض أن يسميها ثورة) هو المطالبة بتغيير بنية النظام وتحويله إلى نظام ديمقراطي تعددي تداولي يتبنى معايير الدولة الحديثة كالحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وفصل السلطات ومحاربة الفساد، وإضافة لتجاهل الرئيس أسباب الثورة هذه، غض الطرف عن الأساليب التي تتعامل بها أذرعة السلطة وأجهزتها (من جيش وأمن وميليشيا) مع المواطنين، وعندما برر الرئيس الأسد أسباب تبني نظامه الحل الأمني، قال أن هذا رد على أعمال الإرهاب ودفاع عن النفس وأغمض عينيه عن أن الثورة السورية بقيت سلمية أكثر من ستة أشهر، وكانت السلطة تواجه الناس بالرصاص وهم عراة الصدور، إلى أن اضطرتهم لحمل السلاح دفاعاً عن النفس، وهو الأمر الذي اعتبره الرئيس مستنكراً من الناس وحلالاً على السلطة.

رأى الرئيس الأسد، أن الحل يكون بأن تقوم الحكومة السورية القائمة حالياً بالعمل على عقد مؤتمر يشارك فيه الجميع (ما عدا المعارضة المتهمة) ويقومون بوضع دستور يستفتى عليه، ثم تشكل حكومة (موسعة) لم يسمها لا حكومة وحدة وطنية ولا حكومة ائتلافية، وذلك حسب الدستور الجديد، وقبل هذا وذاك توقف المعارضة المسلحة إطلاق النار، وتتوقف الدول الأخرى عن مساعدتها، وبعد ذك توقف السلطة إطلاق النار، أما المعتقلون فينظر في أمرهم في مراحل لاحقة من خلال إصدار عفو عام لا يطاول القضايا المدنية (وبديهي أنه يمكن اتهام أي معتقل بتهمة مدنية) وبعد هذا كله، تبقى محاربة الإرهاب وملاحقو الإرهابيين هدفاً أساسياً لن يتوقف، وفي هذه الجزئية يمكن اعتبار من يوجه أي نقد للسلطة إرهابياً (حسب القانون الذي صدر قبل عدة أشهر) والذي مورس فعلاً وأحال عشرات الكتاب والمثقفين والمحامين وغيرهم إلى محاكم الإرهاب. في الوقت الذي رفض فيه مطلقاً إمكانية السماع لأية مبادرة دولية إلا إذا كانت تتمة لمبادرته، وكانت هذه رسالة واضحة للدول الإقليمية والدولية الأخرى ولمجلس الأمن ومنظمات الأمم المتحدة، وعلى رأس الجميع الأخضر الابراهيمي الموفد العربي ـ الدولي.

اشارت المعارضة جميعها، الداخلية والخارجية فضلاً عن الحراك المجتمعي، والرأي الشعبي السوري، ومنظمات المجتمع المدني، إلى أنها ترفض هذه الأفكار (المبادرة) رفضاً مطلقاً، لأنها لا تتعدى ما طرحه النظام منذ الأيام الأولى للثورة، أي إجراء بعض الإصلاحات الجوهرية وتقديم بعض (الامتيازات) لأفراد في المعارضة، دون التغيير الجدي لبنية النظام، وترى هذه الأطراف، أن هذه الأفكار و(المبادرات) لا توصل إلى أي مكان، وأنها أضاعت فرصة كانت مواتية ليتراجع النظام عن موقفه الواهم والعبثي، وأن يصلح ما أفسده، ويعوض شعبه عما حل به من كوارث.

كان الجميع يعتقد أن الرئيس (وأهل النظام) سوف يوافقون على التفاهمات الروسية ـ الأمريكية باستثناء (التنحية والعهدة بالهيكلة لغير الرئيس) فجاء الخطاب ليؤكد رفض كل هذه الاحتمالات ويعيد الأمور إلى موقف السلطة الذي كان في الأيام الأولى للانتفاضة، وتصلبها الذي زاد الأمور حدة وشدة، وعنتها الذي أدى بالحراك المجتمعي إلى حمل السلاح فضلاً عن بدء الانشقاقات في الجيش السوري.

أعاد خطاب الرئيس الأمور بالفعل إلى نقطة الصفر، إنه عود على بدء.

 

Email