بين الثقافي والسياسي في الزمن العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قراءة التركيبة السياسية العربية السائدة، تقتضي قراءة موازية أكثر أهمية، تتعلق بالتركيبة الذهنية التي تعبر عن الطبيعة الثقافية العربية.. وعندما أقول «الطبيعة الثقافية العربية» أُلاحظ الخصوصية في هذه الثقافة، شأنها في ذلك شأن أي ثقافة أخرى. فالثقافة العربية نابعة جذراً وأساساً من استتباعات الأديان السماوية الكبرى في المنطقة العربية، والتي تمحورت في مركزية ثقافة التفسير والرأي والتدوين.

وهنا لا بد من ملاحظة أن كل استتباعات الكلام والرأي كانت اجتهادية، وهي التي أفضت بصورة طبيعية إلى الخلافات التاريخية المعروفة، التي استحالت بقوة دفعها الفكري والحياتي إلى مذاهب وتيارات تتنابذ وتتفارق على أوهى المواضيع وأكثرها غموضاً، على نمط الكلاميين البيزنطيين.. وكنت قد قرأت قبل سنين طويلة كتابين مهمين، أحدهما لأبي الحسن الأشعري بعنوان «مقالات الإسلاميين».

وفيه استعرض الأشعري مصفوفة واسعة من فرق الكلام التي كانت يومها بالمئات، بل إن كل فرقة من الفرق كانت تتشقَّق بمتوالية عددية لافتة، وكانت تلك الفرق تختلف في أُمور جدلية سفسطائية، وخاصة ما يتعلق منها بالغوامض والغيوب، وليتهم كانوا يقرنون تلك الاختلافات بالاجتهاد الحميد، بل كانوا يتقاتلون ويُكفِّر بعضهم بعضاً، كما يفعل اليوم بعض أنصار «الإسلام السياسي».

والكتاب الثاني للشهرستاني بعنوان «المِلل والنِّحل»، ويتضمن عرضاً واسعاً للفرق النابعة من الكلام، مع إيماءات واسعة لتقاطعها مع المِلل والنِحل الأُخرى. أقول هذا الكلام للتدليل على أننا نابعون من هذا التاريخ الطويل، الذي حوَّل التعددية الطبيعية في الرؤى والاجتهادات إلى سبب للخلاف والاختلافات.

وبهذا المعنى نلاحظ أن السياسي العربي المتربع في سدة الحكم، لا يقوى على قبول الآخر المختلف معه، ويجترح من الأوصاف والنعوت والأسباب ما يكفل كبح المُخالف ومصادرته. ولقد شهدنا تاريخياً تلك الأقوال التي تُقدِّس ثقافة القبول غير المشروط بما يمليه السلطان، وما يقرره صاحب الجاه والصولجان، ومن ذلك قول الشاعر:

خلِّ جنبيك لرامِ * وامضِ عنه بسلام

مُتْ بداءِ الصمت * خير لك من داء الكلام

إنما السالم من * ألجمَ فاهُ بلِجام

ويقول آخر:

إن الخليفة قد أبَى فإذا * أبَى شيئاً فإنِّي قد أبَيته...

لقد ورثنا هذه الثقافة، وكانت شديدة البيان في مصر واليمن وسوريا وليبيا وتونس، الأمر الذي جعل حالة المصادفة التاريخية «البوعزيزية»، بمثابة الشرارة التي أحرقت السهول والوديان.. ليس لكونها مصادفة مجردة، بل لكونها بذرة أومأت إلى كامل المقدمات التي صنعها النظام العربي، المتخندق في زمن المغالبة الفجَّة للتاريخ ونواميسه. وما دمنا بصدد الحديث عن الثقافة العربية الموروثة، بعجرها وبجرها، سنلاحظ أن تلك الثقافة قائمة على مركزية الغائب، بالتوازي مع عرضية الحاضر.

. وهذا يتطلب بعض التفسير؛ فالغائب يتجلَّى في كل ألوان الآداب والفنون العربية، ففي اللغة المكتوبة تغيب الصوتيات وتظهر السواكن.. ذلك أن كل حرف مكتوب يحتمل تسع حركات صوتية غير مكتوبة حصراً، وهي: الفتحة والكسرة والضمة والسكون والشد والمد والفتحتان والكسرتان والضمتان، بل إن حالات المَد قد تتعدد كما هو الحال في الرسم القرآني. ولعل سائلاً يتساءل:

وهل هذه مَثْلبة؟ وأقول له بكل الصدق إنها ليست مثلبة، بل ميزة، ولكنها ميزة تجعل مدون العربية وناطقها مأسوراً بفقه الكلام واللسان، فلا يمكنه النطق الصحيح والكتابة الصحيحة إن لم يستبطن الخفاء والأخفى.

وفي التصوير التاريخي تسود في العربية ثقافة الزخرفة والنمنمة والرقش والنقش، وهي ثقافة بصرية تُعبِّر عن فكرة الاحتشاد المرئي، المحكوم في آن واحد بقدر كبير من المُضمر، النابع من تجاويف الفراغات وامتداداتها الأفقية. وفي مثل هذه الثقافة البصرية، كان لا بد للتجسيم والتشبيه أن ينزاح لصالح التجريد المُحاصر بإيقاع ثابت لا مفر منه.. وهنا نرى كيف تتمثَّل وحدة الثقافة العربية الإسلامية، في مختلف تجلياتها الصورية والدلالية.

وفي الموسيقى حار علماؤها الفرنسيون وهم يتجشَّمون عناء تدوين الموسيقى الشرقية، فقد أوفد نابليون بونابرت كوكبة من العلماء الفرنسيين لتسجيل الشواهد الثقافية في مصر، وقد انعكس كل ذلك في الموسوعة المهمة التي دوَّنوها بعنوان «وصف مصر».

وفي هذه الموسوعة أجمع علماء الموسيقى على استحالة تدوين الموسيقى العربية، حتى إن البعض منهم لم يقتنع بكونها موسيقى إلا بعد أن تجلَّت لهم المنابع الثقافية لتلك الموسيقى.

والتي تتلخَّص في ثابتٍ تصعب محاصرته سماعياً لأول وهلة، ومتغير مُتحرك يتَّسق مع الأداء الصوتي الفردي والجماعي من جهة، والعزف المفتوح على تقلبات مزاجية للعازفين من جهة أُخرى. والحاصل أن الموسيقى العربية الشرقية، تتموْضع في أساس قالبه متحرك إلى ما لا نهاية، تماماً كالخط العربي الذي يتحرك أُفقياً ودائرياً دونما إخلال بالجوهر الثابت.

مما سبق أصل إلى استنتاج مهم، يتعلق بالممارسة السياسية في المنطقة العربية، بوصفها تابعة لهذه الثقافة، ولكن في بُعدها السلبي، ذلك أن ثنائية الظاهر والمستتر، قيمةٌ عظيمةٌ عندما تكون مقرونة بالمتغير بوصفه التميمة السحرية للأداء والتطور، ولكنها تتحول إلى قيمة كابحة سالبة عندما يحتكرها «الإمام الصدر»، والرئيس الأبدي، وملك الملوك أجمعين.

بعد هذا يحق لنا أن نتساءل: أين نقف من هذه المعادلة؟ هل نتمثَّل بُعدها الإيجابي الرائي دوماً للمتغير بوصفه أصل هذه الثقافة وقلبها النابض؟ أم نقف عند تخوم الثابت القاصر، رافضين قانون التحول الموضوعي؟

في تحولات «الربيع العربي» كان أمام العديد من الأنظمة العربية، فرصة تاريخية لاستيعاب وتمثُّل المُتغير الموضوعي في التاريخ العربي المعاصر، وكان بوسع هذه الأنظمة أن تكون حاضناً للمستقبل، بقدر توافرها على أدوات الشرعية والفاعلية. لكنها أبت وتأبَّت واستكبرت، فكان ما رأيناه في ليبيا واليمن ومصر وتونس، وما نراه شاخصاً الآن في سوريا، حيث تتحول سوريا إلى سلعة تباع في مزاد بورصة العرض والطلب الدولية.

من المؤسف حقاً أن السياسي العربي القابض على مفاتيح السلطة والقوة، لم يستوعب ضرورة المتغير وأهميته، وربما كان الشاهد المصري على أيام الانتخابات الرئاسية، خير مثال على إقامتنا المديدة في زمن الثبات القاصر.

واليوم يشتكي أنصار الحداثة والمجتمع العصري من تغوُّل الأصوليين، وكان بوسعهم إدارة المعركة السياسية بأدوات ووجوه جديدة غير ملتبسة بمفاسد النظام السابق، بدلاً من تكريس ذات الرموز، وبهذا الفعل مهَّدوا الطريق لانتصار الإسلام السياسي في المعركة الانتخابية.

ذلك مثال واحد من أمثلة عدة، لكنه كفيل بإيضاح معنى العلاقة بين الثقافي والسياسي في الزمن العربي.

 

Email