نظرة إلى الداخل الأميركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل الولايات المتحدة دولة بوليسية؟

هذا السؤال الكبير عالجته في مقالة صحافية الكاتبة الأميركية ناومي وولف، لكن تناولها جاء للمسألة من زاوية غير مألوفة. فالسيدة وولف تتحدث عن الطائرات من دون طيار، ليس من حيث استخدامها كوسائل لشن هجمات جوية خارج الولايات المتحدة لتنفيذ عمليات اغتيال في باكستان واليمن مثلاً، كما هو حاصل، وإنما كأحدث أدوات تستخدمها السلطة الأميركية لعمليات تجسس داخل الولايات المتحدة نفسها، على أفراد وجماعات.

في مقالة سابقة في نفس السياق، تحدثت هذه الكاتبة عن ما تعتبره "الخطوات العشر"، التي تشير لانحدار بلد ما إلى مستوى دولة بوليسية. والآن وفي المقالة التي نحن بصددها، تقول الكاتبة إن بعض الناس سألوها عن أية مرحلة من هذه الخطوات العشر قد بلغتها الولايات المتحدة.

وكإجابة على هذا التساؤل، تقول السيدة وولف إنه باستخدام ألوف من الطائرات بدون طيار، بواسطة السلطة العسكرية الأميركية في الفضاء الجوي الأميركي للقيام بعمليات مراقبة وتجسس، من المقرر أن تبدأ فعلاً مع حلول بداية العام الجديد، فإن هذا يعني أن الدولة البوليسية الأميركية صارت أمراً واقعاً. وتمضي الكاتبة متحدثة عن التفاصيل.

كانت البداية في فبراير الماضي، عندما أجاز الكونغرس الأميركي قانوناً يسمح لوزارة الدفاع بتطوير استخدام الطائرات من دون طيار، في الفضاء الجوي الأميركي. وعدد الطائرات المخصصة لهذه العمليات يفوق التصور الخيالي، فمن المتوقع أن يبلغ هذا العدد 30 ألفاً بحلول عام 2020.

ومن الطريف أن هذه الطائرات العجيبة، لها أشكال وأحجام متنوعة، من أجل تلبية كافة متطلبات المراقبة والتجسس على المواطنين الأميركيين، حتى أن بعضاً منها في حجم طائر صغير فلا تجتذب انتباهاً.. مما يعني أنك كمواطن أميركي، لن تراها وهي تقوم بعملية تجسس لاجتماعك مثلاً مع مجموعتك التي تمارس نشاطاً سياسياً من نوع ما، أو تصويرك بالفيديو وأنت في حالة خلوة مع زوجتك.

ثم إن هناك طائرات أخرى في حجم طائرة ركاب، والأعجب من هذا وذاك أنه متاح لكبرى الشركات الأميركية استئجار هذه الطائرات صغيرها وكبيرها لأغراض تتعلق بمصالح الشركة.. وقد تكون أغراضاً غير مشروعة.

ووفقاً للقانون المشار إليه الذي أجازه الكونغرس، فإن وزير الدفاع الأميركي يملك سلطة تخوله استهداف فرد أو جماعة بالمراقبة والتجسس. بكلمات أخرى.

فإن بوسع وزارة الدفاع البنتاغون أن تستهدفك مباشرة كمواطن ودون إعلان مسبق، بأن ترسل طائرة من دون طيار لتحلق قرب نافذة شقتك السكنية، لتجمع معلومات مصورة عنك وعن أسرتك، إذا صادق وزير الدفاع على العملية. ويمكن أيضا إرسال طائرة لمراقبتك أنت وأصدقاءك، لتسجيل محادثاتكم إذا كنتم في طريقكم مثلا للانضمام إلى مظاهرة اجتماعية.

ماذا يحدث لتسجيلات الفيديو؟ إنها توزع على دوائر حكومية مختلفة، من بينها مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي بوسعه التلاعب بالأفلام لتلفيق مخالفة أو جريمة ضد أي مواطن أميركي أو أصدقائه، إذا كانوا مستهدفين سياسياً.

على صعيد آخر، يمكن للشركات الخاصة الأميركية استخدام ما تستأجره أو تملكه من طائرات بدون طيار، على نحو أمني. فمثلاً، إذا تجمعت مظاهرة احتجاجية أمام أحد البنوك الكبرى تردد هتافات، فإن بوسع الشركة المالكة للبنك أن تبعث بطائرة للمراقبة، أو حتى للقمع على غرار ما تفعل قوات الشرطة.

هكذا تتحول الولايات المتحدة إلى دولة بوليسية. لكن استخدام الطائرات بدون طيار كأحدث وسيلة تجسسية في الداخل الأميركي، لا ينبغي أن ينظر إليه بمعزل عن التاريخ الأمني الأميركي.

فاستخدام هذه الطائرات لأغراض التجسس على مدى 24 ساعة يومياً، ليس سوى حلقة في مسلسل بدأ في عام 1978. ففي ذلك العام أجاز الكونغرس قانون مراقبة الاتصالات الخارجية، الذي يسمح للسلطات الأمنية بالتنصت على هواتف المواطنين الأميركيين دون إذن قضائي، لكن حينئذٍ اشتملت بنود ذلك القانون على قيود تحد من عمليات تدخل السلطات الأمنية.

وجاءت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 على البرجين في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع، لتجد فيها الوكالات الأمنية مبرراً كافياً لطلب رفع هذه القيود. وعلى الفور تجاوب الرئيس بوش الابن، ومعه الكونغرس بمجلسيه، فأجاز الرئيس إلغاء القيود. كان ذلك تدشيناً لعهد "مكافحة الإرهاب"، ليس خارج الولايات المتحدة فحسب، وإنما في الداخل الأميركي أيضاً.

والآن وبعد 11 عاماً من تطبيق القانون، أجاز الكونغرس قراراً بتمديده لمدة خمس سنوات أخرى. وفي هذا السياق يأتي استخدام الطائرات بدون طيار لأغراض التجسس الداخلي، كقفزة أمنية نوعية لا تعني سوى أن العناصر الرئيسية لبناء الدولة البوليسية الأميركية قد اكتملت.

لكن ما هو المغزى السياسي وراء هذا المشروع الشرير؟

أغلب الظن أن الأمر يتعلق بتداعيات الأزمة المالية والاقتصادية الكاسحة، التي ظلت تعصف بالاقتصاد الأميركي على مدى السنوات الأربع الأخيرة، وما يتوقع أن يحدث من فوران شعبي طويل المدى، قد يتحول إلى عنفوان ثوري مع اشتداد وطأة الأزمة وانعكاساتها السالبة على الظروف المعيشية لغالبية الأميركيين من ذوي الدخول المحدودة.

لقد جرى تدشين هذا الفوران الشعبي قبل أقل من عامين، عندما انطلقت حركة "احتلوا وول ستريت" رافعة شعارات مضادة لسياسة "اقتصاد السوق الحر". ورغم أن الحركة تلاشت بعد شهور، إلا أن من المتوقع أن تتجدد في أي وقت، مع تسارع تدهور النظام الاقتصادي الأميركي.

هذا هو التفسير الأوحد للنقلة الأمنية النوعية، التي تدفع بالولايات المتحدة إلى نهج الدولة البوليسية.

 

Email