مهمة الإبراهيمي.. دونها حبل الوريد

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن الأخضر الإبراهيمي المندوب الدولي ـ العربي، سيعود من دمشق إلى القاهرة كما دخلها، أي خالي الوفاض، باستثناء بعض العبارات الفخمة، وغير محددة التعريف وحمالة الأوجه، كالسيادة ومصلحة الشعب السوري، والأمن والأمان وما يشبه ذلك.. وهذا ما يمكن استنتاجه من محادثات الإبراهيمي مع الرئيس الأسد والمسؤولين السوريين، ومع أطراف المعارضة التي قابلها في اليوم الثاني لمقابلة الأسد.

كان الإبراهيمي على العموم حذراً جداً، ومقلاً جداً، ليس في تصريحاته فحسب، وإنما أيضاً في عرضه ما لديه، سواء أمام الرئيس الأسد أو أمام المعارضة. فهو مثلاً، لم يطرح للرئيس الأسد بجرأة وصراحة مسألة تنحيه التي يتم الحديث عنها في كل اجتماع ولقاء في الداخل والخارج، كما لم يطرح بالوضوح والصراحة مسألة إعادة هيكلة الجيش والأمن السوريين، وفي أي اتجاه، ومن يكلف بهذه الهيكلة..

وكذلك إحالة الذين ارتكبوا أعمال قتل أو مجازر أو تعذيب أو تدمير أو جرائم ضد الشعب السوري، إلى المحاكمة. وقد حاول الإبراهيمي، كما يبدو، أن يلامس هاتين المسألتين (مستقبل الرئيس ومستقبل الجيش والأمن) ملامسة ناعمة هشة غير مباشرة، لا تتجاوز جس النبض، لأنه يخشى من ردود فعل السلطة السورية بحيث تزيد مهمته صعوبة، أو حتى تنهيها، خاصة وأن السلطة السورية لا تخفي عدم اهتمامها الكلي بهذه المهمة، بل وإهمالها لها.

تأكدت أطراف المعارضة بعد اجتماعها بالإبراهيمي، من وجود "تفاهمات" روسية ـ أمريكية، وهو ما لم يصرح به الإبراهيمي علناً ولا مرة. ويبدو أن هذه التفاهمات تتركز على تشكيل حكومة انتقالية في سوريا، تعهد إليها صلاحيات "مطلقة" حسب طلب المعارضة، و"واسعة" حسب الاتفاق الروسي ـ الأمريكي، وعلى حساب صلاحيات الرئيس الحالية، وتتولى إدارة البلاد، وتكلف بإعادة هيكلة الجيش والأمن، وإصدار القوانين والقرارات اللازمة لوقف العنف وإطلاق سراح المعتقلين، وتسيير الحياة وتأمين مستلزماتها، ووضع أسس الحراك المقبل الرسمي والشعبي، وإجراء انتخابات جمعية تأسيسية تكلف بإنشاء دستور جديد، ثم إجراء انتخابات نيابية ورئاسية فيما بعد، على أن يبقى الرئيس حتى عام 2014 عام انتهاء ولايته، ولكن من دون صلاحيات.

وهذا أقصى ما يتمناه الإبراهيمي، وما تتمناه التفاهمات الروسية ـ الأمريكية، استناداً إلى مؤتمر جنيف الذي عقد في نهاية يونيو الماضي، ومؤتمر "دبلن" الذي عقد قبل أسابيع.

وهناك اتفاق روسي ـ أمريكي على صدور هذه التفاهمات، إذا ما تم الاتفاق عليها، بقرار من مجلس الأمن حسب الفصل السادس، وليس السابع (الذي يسمح بالإجراءات العسكرية للتنفيذ)، على أن تضمن الدول الكبرى مجتمعة إجراءات التنفيذ، بحيث تكون بقوة الإجراءات العسكرية.

إلا أن هذه التفاهمات، أو الاتفاقات، أو الاقتراحات الروسية ـ الأمريكية، ستواجه صعوبات جدية، وقد تواجه أمواجاً متلاطمة من الصعوبات، التي سوف تقف أمامها وأمام تطبيقها الجدي، وبالتالي لا تتيح الفرصة لها لحل الأزمة السورية.

على رأس هذه الصعوبات، إجماع الآراء على أن الرئيس الأسد سيرفض التخلي عن صلاحياته كلها، وأقصى ما يقبله هو التخلي عن بعضها، كما أنه سيرفض رفضاً باتاً التنحية قبل نهاية ولايته، وهو حتى الآن يصر على حقه في الترشح للرئاسة مرة جديدة بعد انتهاء هذه الولاية. وحتى لو تم افتراض قبوله، فإن من حوله (من الرؤوس الحامية وشركاء القرار)، وخاصة كبار ضباط الأمن والجيش وأوساط الرئاسة الأخرى، لن تقبل تنحيته وستجبره على الاستمرار.

وعلى رأس الصعوبات الهامة أيضاً، والتي لا تقل أهمية عن التنحية، رفض ضباط الأمن والجيش إعادة الهيكلة، أو تعديل مهمات أو صلاحيات أو إحالة أحد إلى المحاكمة، أو رفع اليد عن الهيمنة على الحكومة والدولة والشعب.

وبالتالي، يصبح من المستحيل الوصول إلى أية تسوية للمسألة السورية، ومن ثم تفتح الأبواب جميعها بعد ذلك للعنف وأساليبه، خاصة وقد تسرب بعض الأخبار التي مفادها، أنه إذا فشل الإبراهيمي فستزود الولايات المتحدة والدول الأوروبية المقاومة السورية بالأسلحة، وستساعد على سلوك طريق العنف والحسم العسكري.

إن مهمة الإبراهيمي هي في أزمة دون شك، إلا أنها ليست الوحيدة المأزومة، حيث يشاركها التأزم الموقف الدولي العربي والإقليمي، وعلى الأخص الواقع السوري القائم، الذي يتردى يوماً بعد يوم، ليس فقط بسبب الصراع المسلح في كل مكان من سوريا، وصعوبة حسمه لصالح أية جهة، وإنما أيضاً بسبب فقدان الأمن، وانتشار الحواجز الأمنية في كل مكان (يقال إنه يوجد في مدينة دمشق 300 حاجز)، ولحاجز الأمن مطلق الصلاحية في التفتيش والتوقيف وإعادة المسار في الطريق إلى الجهة التي أتى منها، والمصادرة، والإهانة وصولاً إلى إطلاق النار.

إضافة إلى ارتفاع الأسعار الكبير الذي لم يشهده السوريون من قبل، فالدولة غائبة، وفوق ذلك فقدان المواد الأساسية، وما زالت الشرعية الدولية، تتشبه بـ"الأرأيتيين" اللغويين العرب الذين أمضوا حياتهم يناقشون "أرأيت إن بالت فأرة في البحر، هل تنجسه أم لا؟!".

وبالعودة إلى مهمة الإبراهيمي، يبدو أن الرجل لا يريد فشلها (وهذا أمر طبيعي)، إلا أنه يبغي نجاحها حتى لو كان جزئياً على حساب بعض أصحاب الحقوق. ولذلك تجده حذراً هشاً هيناً ليناً متسامحاً، ومن المفترض أن يكون أكثر جدية وصراحة، مع الاعتراف بصدق الرجل وشعوره بالمسؤولية، وبالتزامه القومي والديمقراطي التاريخي، مما لا ينسجم كثيراً مع بعض ممارساته الحالية، كما يرى قادة المعارضة السورية الخارجية منها والداخلية.

المشكلة الكبرى الآن هي أن الحسم العسكري متعذر، والتفاهمات الروسية ـ الأمريكية دونها حبل الوريد، والمذابح تتنامى في سوريا، والأزمة تكبر، والدول الإقليمية والدولية تبحث عن مصالحها، والشعب السوري يئن تحت أثقال أزمته، وتسيل دماؤه كالأنهار، وتهدم بيوته وتحرق، ويخسر ما جناه طوال عمره، والكل بانتظار عودة "غودو" كما جاء في مسرحية بيكيت.

يبدو أن الحل في واحد من ثلاثة: أن يسلح العرب والغرب المعارضة بهدف الحسم العسكري، أو يتخذ مجلس الأمن قراراً بالإجماع بمبادرة شاملة تضمن تنفيذها الدول الكبرى وتلزم السلطة السورية بذلك، أو في انتظار تدمير سوريا كلياً.. وإلا فابشر بطول سلامة يا مربع.

 

Email