الاعتراف ليس كافياً يا فخامة الرئيس

ت + ت - الحجم الطبيعي

ضجة إعلامية كبيرة وحالة من التهويل والتحضيرات الصاخبة، سبقت زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر، خاصة وأنها الزيارة التي كان ينتظرها الطرف الجزائري بشغف، معلقا عليها آمالا كبيرة لفتح صفحة جديدة في العلاقة بين البلدين، وكذلك الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في حق الشعب الجزائري، خلال استعمار دام 132.

جاء فرانسوا هولاند كسابقيه من الرؤساء الفرنسيين، ليعطي دروسا في الديمقراطية من جهة، ويمجد الاستعمار من جهة أخرى. فرنسا "الحرية والعدالة والمساواة" والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تعترف بوحشية الاستعمار الفرنسي.

لكنها لا تعتذر للجزائر. هولاند جاء للجزائر لحل مشاكل بلاده الاقتصادية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية العالمية، مستفيدا من احتياطيات الجزائر من العملة الصعبة، ومن ضعف الإدارة والتسيير والرؤية الاستراتيجية عند الطرف الجزائري. فالرئيس الفرنسي لم يعتذر ولن يعتذر، كما فعل من قبله ساركوزي وشيراك وميتران وآخرون.

الرئيس الفرنسي قال وبدون تردد، في أول ندوة صحافية له، إنه لم يأت ليعتذر أو ليعبر عن "الندم". وهذا يعني بدون أدنى شك، أن معاملة فرنسا للجزائر لا تحترم أرواح الشهداء، ولا تحترم الذاكرة الإنسانية، ولا تحترم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تفتخر فرنسا بأنها مصدره.

الإشكال المطروح بخصوص العلاقة بين الجزائر وفرنسا، والتي اتسمت خلال نصف قرن بالتوتر وعدم الاستقرار وغياب الشفافية والصراحة والوضوح، هو أن الطرف الفرنسي ما زال ينظر إلى الجزائر بعين الاستخفاف والاستهتار وعدم الاحترام، والتهرب من الاعتراف بما نجم عن فرنسا الاستعمارية في حق الشعب الجزائري.

للتاريخ؛ قتل الاستعمار الفرنسي أكثر من 15% من الشعب الجزائري، أي مليونا ونصف مليون. والبرلمان الفرنسي صادق في 2005 على قانون يجرم كل من يشكك في الجرائم التي ارتكبت ضد الأرمن ما بين 1915 و1917، حيث سيعاقب من يشكك في تلك الجرائم بالسجن لمدة سنة وغرامة مالية تقدر بـ45 ألف يورو.

ما يثير التعجب والدهشة، هو أين البرلمان الفرنسي من المجازر التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر لما يزيد على 132 سنة؟ وأين هي أعمال العنف والتنكيل والتعذيب في العديد من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا والهند الصينية وفي العديد من دول العالم؟

للتذكير فقط، قتلت فرنسا في يوم واحد، أثناء مظاهرات 8 مايو 1945، (45.000) جزائري في مدينة سطيف وقالمة وخراطة، والسبب كان أن المتظاهرين خرجوا للمطالبة باستقلال الجزائر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما وعدتهم فرنسا بذلك مقابل مشاركتهم في صفوف الجيش الفرنسي. فرنسا وحتى الساعة لم تعتذر عن جرائمها في الجزائر، ولا عن قتل مليون ونصف مليون جزائري من أصل 10 ملايين.

بل أكثر من ذلك، تحاول فرنسا أن تمجل ماضيها الاستعماري، وتتغنى بما حققته من تمدن وتحضر وتقدم لمستعمراتها. المفارقة هنا أن الاستعمار الفرنسي فعل حضاري يجب أن يمجد، ومجازر الجزائر أصبحت محاسن، بينما مجازر الأرمن يجب الاعتراف بها من قبل تركيا، ويجب معاقبة كل من يشكك فيها أو يكذب أرقامها!

ونحن هنا لا نحاول التقليل من عملية إبادة الأرمن ولا نغطي على الفاعلين، لكن المفارقة هي أن دولة بحجم فرنسا أصبحت تتفنن في إصدار قوانين معاقبة من يناقش الهولوكوست ومجازر الأرمن، وتتناسى ماضيها الاستعماري الأسود.

المفكر والفيلسوف الفرنسي المرحوم رجاء غارودي، ألّف قبل سنوات كتابا بعنوان "الأساطير المؤسسة لإسرائيل"، كشف فيه بالأدلة والبراهين والأرقام التناقضات والأكاذيب وعمليات التضليل التي يتميز بها الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية العالمية.

ومن بين المواضيع التي تطرق لها موضوع عدد ضحايا المحرقة "الهولوكوست"، حيث أثبت بالأدلة المغالطات العديدة التي تحتويها قضية الهولوكوست، واستغلالها لتبرير إرهاب الدولة الذي يمارسه الكيان الصهيوني يوميا في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وهذا أزعج الصهاينة وجعلهم، من خلال قوانين "معاداة السامية" وقانون "فابيوس- جيسو"، يعملون للقضاء فكريا ومعنويا ونفسيا على غارودي وكل من يقف في طريقهم الاستعماري الاستيطاني والاستغلالي والاستبدادي، وكل من يفضح عمليات التضليل والدعاية والأساطير التي تقوم عليها إسرائيل.

الطبقة السياسية الفرنسية والنخبة المثقفة، بحاجة إلى مصارحة نفسها ومواجهة الواقع والحقيقة، والتحلي بالشجاعة الكافية للاعتراف بالماضي الأسود للاستعمار الفرنسي. فالعلاقات السليمة والناجحة والصريحة بين الدول، لا تقوم إلا على الاحترام المتبادل واحترام القيم والمبادئ الإنسانية، واحترام ذاكرة الشعوب وذاكرة الإنسانية.

فرنسا بحاجة إلى الجزائر، أكثر من حاجة الجزائر إلى فرنسا. ففرنسا تبحث عن شريك سياسي واقتصادي وثقافي، يراه هولاند محوريا واستراتيجيا وهو يدرك تمام الإدراك أن الجزائر تتوفر على كل الإمكانيات والوسائل للعب هذا الدور. وقد أعلن هولاند بكل صراحة، أنه جاء للجزائر من أجل الشراكة ومن أجل المستقبل، وليس من أجل التاريخ والماضي.

لكن ما يتجاهله هولاند، هو أن الشراكة بدون ماضٍ ستبقى حبيسة معطيات عديدة تعرقل نجاحها واستمرارها، كما أن المستقبل بدون ماضٍ يعتبر جسدا بلا روح. وتصريحات هولاند حول الماضي الاستعماري الفرنسي، هي هروب إلى الأمام.

المتابع والملاحظ للعلاقات الفرنسية الجزائرية منذ نصف قرن، يدرك أن العلاقة بين البلدين ميزها المد والجزر والتوتر تارة، والاستقرار تارة أخرى، ولم تقارب أبدا صفة العلاقات الطبيعية التي يجب أن تربط بلدين لهما مصالح مشتركة كثيرة.

فمنذ ديغول إلى هولاند، لم يفلح الساسة الفرنسيون في إصلاح الملف السياسي المرتبط أساسا بالتاريخ والذاكرة. وهولاند بالمقارنة بسابقيه، يعتبر أنه خطا خطوة إلى الأمام، حيث اعترف على الأقل بأن الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان استعمارا وحشيا. وهنا يكون هولاند قد تجاوز سابقيه في محاولة إنهاء الحرب الصامتة بين فرنسا والجزائر، منذ استقلال الجزائر.

فهل ستكون الخطوة القادمة لهولاند هي الاعتذار؟ أم أن الغطرسة والتعنت وجماعات الضغط واللوبي الصهيوني وقوى أخرى، لها كلام آخر في الموضوع؟

العلاقات الفرنسية الجزائرية ستبقى دائما في حالة مد وجزر، ما دام هناك طرف فرنسي متغطرس ومتعال ومتكبر، وطرف جزائري لا يعرف ماذا يريد بالضبط، وإذا عرف فإنه لا يعرف كيف يحصل على ما يريد.

ألا يستدعي الظلم والوحشية الاعتذار يا فخامة الرئيس؟ أين هي الجرأة والشجاعة؟ وأين هي مبادئ حقوق الإنسان والقيم واحترام الآخر واحترام الثقافات والحضارات؟

 

Email