الصراع الطائفي ومستقبل سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

رفع البعثيون شعارات براقة في أتون الصراع السياسي والفكري، الذي كانت تشهده الدول العربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ودخول المجتمعات العربية في مرحلة حكم الاستعمار ثم التطلع إلى بناء الدولة العربية المستقلة.

وكان الشد والجذب على أشده بين تيارين سياسيين كبيرين: تيار العودة إلى صيغة الوحدة التي كانت قائمة قبل تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا. وهذا التيار كانت تمثله جماعة الإخوان المسلمين تحت فكرة الجامعة الإسلامية وبعث الخلافة، والقوى القومية وحزب البعث الداعين إلى الوحدة العربية على أساس وحدة اللغة والتاريخ المشترك القائمة بين أبناء الأمة العربية.

وتيار آخر، أكثر واقعية وبراغماتية، قَبِل التعامل مع الدولة القُطرية التي خرجت من رحم انهيار الدولة العثمانية، والتقسيمات التي هندسها الاستعمار الغربي. ولعل أبرز تلك القوى الأحزاب الشيوعية العربية، التي كانت تريد اتحاداً حراً بين الشعوب العربية، فضلاً عن قوى أخرى سياسية محلية تقليدية متنفذة، كانت تبحث عن مصالحها في السيادة والحكم في هذا الجزء أو ذاك من خارطة الدول العربية التي كانت في طور التشكل.

كان الجو السياسي العام في المشرق العربي جواً تقدمياً، فالعرب وقد خرجوا من تحت عباءة الدولة العثمانية التي جثمت على صدورهم أربعة قرون، بثورة بدأت في الحجاز لتنتقل إلى بلاد الشام، ثم ليقعوا فريسة لخديعة الإنجليز والفرنسيين وما كشفته فيما بعد اتفاقية سايكس ـ بيكو، أصبحت لهم القومية بشكلها العلماني "البسماركي" المتمثل بتجربة الوحدة الألمانية والإيطالية، أيديولوجية لتحقيق أمانيهم في إعادة لم شمل الولايات العربية التي مزقها الحكم الاستعماري، فضلاً عن كونها أداة تحشيد وتكتيل الجماهير واستقطابها لمقارعة الحكم الأجنبي الجديد.

ولم تعد فكرة بعث الخلافة التي ألغاها أتاتورك في العام 1924، مجدية بالنسبة للعرب - وإن كانت جرت عدة محاولات فاشلة في ديارهم لذلك - وتطلعت القوى القومية، التي شاع فكرها نتيجة تلك التحولات، إلى بناء دولة عصرية تقوم على الانتماء القومي وليس على الانتماء الديني، مما كان له الأثر الأكبر في انخراط أبناء الأقليات المسيحية في تلك الحركة، وتصدرهم على مستوى الرموز الفكرية والقادة الحركيين والسياسيين.

وبعثت انتصارات الجيش الأحمر السوفييتي على قوات هتلر النازية في العام 1945، روحاً جديدة بين المثقفين العرب، فغدت الدعوة إلى الاشتراكية على كل لسان، ونمت الأحزاب الشيوعية لكي تكون منافساً حقيقياً للأحزاب القومية، وللطرح الديني الذي كان يمثله خير تمثيل حزب الإخوان المسلمين في العديد من الأقطار العربية، وبالذات في مصر وسوريا.

ولم يكن هذا الانتصار محدوداً، بل كان على نطاق عالمي، إن جاز التعبير، إذ أصبحت الاشتراكية النظام الاقتصادي والسياسي للاتحاد السوفييتي وشرق أوربا والصين، قبل أن تلتحق بها دول أخرى في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومثلت الاشتراكية عنواناً للعدالة الاجتماعية.

ولا عجب، إذن، أن تجد الأحزاب القومية والدينية نفسها تحت ضغط النظر في مسائل العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، وبالذات الإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على الفلاحين المعدمين، وتخفيف البون الشائع بين الطبقات الاجتماعية، وتأميم الثروات الأساسية، وإدارة الدولة للاقتصاد وجعله مركزياً، وغيرها من المسائل التي كانت الأحزاب الشيوعية تطرحها، والتي كانت تلقى صدى واسعاً لدى السواد الأعظم من جماهير تلك الأيام الثائرة.

حاول حزب الإخوان المسلمين، وفيما بعد حزب الدعوة، ركوب الموجة ومناقشة المسائل التي كانت تطرحها القوى التقدمية، فكتب الشيخ محمد الغزالي، الذي كان عضواً في قيادة الإخوان في مصر، كتاباً في الخمسينات تحت عنوان: "الإسلام والمناهج الاشتراكية"، وفي سوريا أصدر مرشد الإخوان الشيخ مصطفى السباعي "اشتراكية الإسلام"، في نفس الفترة تقريباً. وتناول السيد محمد الصدر (مؤسس حزب الدعوة)، تلك المسائل في كتاب مشهور أطلق عليه: "اقتصادنا".

غير أن الموجة لم تكن دينية في تلك الفترة، إذ سرعان ما استطاع عبد الناصر أن يحجم الإخوان في مصر في أواخر العام 1954، وخبا بريقهم في سوريا والعراق وغيرها. وظلت الشعارات المتداولة في الشارع العربي، شعارات قومية وتقدمية وذات أفق اشتراكي، خلال ثلاثة عقود من بناء الدولة العربية المستقلة في الأقطار العربية مشرقاً ومغرباً.. وللحديث صلة.

 

Email