التخطيط اللغوي والهوية الوطنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عند التخطيط للدولة ومؤسساتها وإدارة شؤونها، يتخذ أصحاب القرار ما يصلح حالها ويجعلها تتقدم وتزدهر، وهذا يشمل المجالات كافة: التجارة والاقتصاد، والزراعة والصناعة، والتعليم والتدريب. ومن بين المجالات التي ربما لا تأتي في الصدارة؛ اللغة. ولا شك أن ثمة اتفاقاً على أن اللغة مقوم أساسي من مقومات الثقافة والهوية الوطنية، ولا يمكن إغفال أهميتها في تمثيل الثقافة وترسيخ هذه الهوية.

وفي الوقت الذي يبرز موضوع اللغة الوطنية ضمن سياسة التعليم، باعتبارها مادة تـُدرس مع المواد الأخرى وتشترك في ذلك اللغات الأجنبية أيضا، إلا أن التخطيط اللغوي أمر أكبر من ذلك، فهو يشمل التصور الشامل لوضع اللغة الوطنية، والعوامل التي تتفاعل معها ضمن السياق الاجتماعي الاقتصادي للبلد، ومدى تأثير هذه العوامل سلباً وإيجاباً، ووضع الخطط واتخاذ القرارات وسَنّ القوانين لتعزيز مكانتها وترسيخ وضعها في المجتمع، سواء في البيوت أو في المدارس والجامعات أو الحياة العملية، ضمن المؤسسات الوطنية والشركات التجارية وتعاملاتها.

ربما تحتاج اللغة العربية للتخطيط اللغوي أكثر من غيرها بسبب وضعها المتفرد، ذلك أن اللغة المحكية في الحياة اليومية مع الأهل والأصدقاء وفي الشارع عموماً، ليست تماماً هي ما نكتبه في الصحف والكتب والبحوث العلمية والكتابات الأدبية، وليست ما نستخدمه في المناسبات الرسمية من خطب وكلمات، وما تتضمنه نشرات الأخبار وغير ذلك. ورغم أن أمماً أخرى ليس لديها هذا البون الشاسع بين فصيحتها وعاميتها، إلا أنها تعير التخطيط اللغوي أهمية كبيرة وتضع له السياسات الاستراتيجية. فالعربية لغة لا نتعلمها بالسليقة كما نتعلم اللهجة المحلية العامية، بل نحتاج أن ندرسها في المدارس والجامعات لنتمكن منها ومن التعبير بها والنطق الصحيح لها.

لقد دأبت الدول العربية خلال عقود من الزمن، على اتخاذ بعض القرارات المتعلقة باللغة، أتت ربما لتعالج حالات محددة قد رُصدت في سياقها، وليس ضمن سياسة استراتيجية شاملة للتعامل مع مثل هذا الجانب المهم من الهوية الوطنية. وتنبغي هنا الإشادة بالمبادرة الأخيرة لحكومة دولة الإمارات في الاهتمام برعاية اللغة العربية وتعزيز وضعها في الدولة، وهو ما يصب في السياسة اللغوية الإيجابية التي ترقى باللغة وتعلي مكانتها.

إن التعليمين الابتدائي والثانوي هما الركيزة الأساسية لإتقان اللغة الوطنية، ولذلك ينبغي أن يبدأ التخطيط اللغوي بهما ليتخرج الطالب وهو قادر على التواصل السليم باللغة، مع جعل اللغة العربية مادة أساسية مطلوبة من طلبة الجامعات.

من المؤسف أن الكثير من طلبة الجامعات العرب لا يتقنون العربية، بل يتقنون اللغات الأجنبية أكثر من العربية، وما يعرفونه من العربية هو المحكية، لغة البيت والشارع. ينبغي منح اللغة الوطنية مكانة أكبر في التعليم، وجعلها لغة التدريس في المواد الإنسانية والعلمية، لأن اللغة تزدهر باستخدامها في البحث العلمي.

يشمل التخطيط اللغوي كذلك، وضع قواعد لاستخدام اللغة في المؤسسات، بما في ذلك المفردات والمصطلحات والأساليب، وكذلك قواعد لاستخدامها في وثائق الملكية الفكرية والعلامات التجارية وأسماء الشركات والشوارع والمحلات، وغير ذلك من جوانب الحياة اليومية. ومن المهم أيضا سَنّ التشريعات وإصدار التعليمات بما يتعلق بمن لديه الأهلية والصلاحية في استخدام اللغة والترجمة في المعاملات الرسمية، التي غالباً ما نجد أن بعض المكاتب التجارية الصغيرة مثل مكاتب الطباعة تتصدى لها. وتنبغي هنا أيضا الإشارة إلى قانون مهنة الترجمة الذي سنته دولة الإمارات لينظم عمل الترجمة فيها، وهو ما يمكن إدراجه ضمن الخطوات الإيجابية في التخطيط اللغوي، وينبغي أن تحذو الدول العربية الأخرى حذوها في هذا المجال.

ويحتاج التخطيط اللغوي إلى إشراك وسائل الإعلام كذلك، فهي أكثر القنوات استخداماً للغة وأكثرها اتصالًا بمستخدميها. على وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، أن تتحمل مسؤولية تعزيز وضع اللغة العربية عملياً.

وهذا يحتاج إلى أن يوليها رؤساء تلك المؤسسات وموظفوها كل اهتمام، ووضع خطط لكل المؤسسات أو لمؤسسات بحد ذاتها، لجعل اللغة ذات وضع رصين في سياق عمل تلك المؤسسات. للهوية الوطنية مقومات عدة من مفردات الثقافة؛ من التاريخ والعادات والتقاليد والقيم الدينية والاجتماعية والطقوس اليومية والموسمية والأعياد، وكثير من المفردات الملتصقة بواقع مجتمع معين.

واللغة من المفردات المهمة في ثقافة أي مجتمع، فهي تعبر عن إرثه وأفكاره وقيمه، وتسرد تاريخه وبها تمارس العادات والطقوس، وبها يعبر المجتمع عن أدبه وشعره وأمثاله، وليست ثمة ثقافة لمجتمع وهوية من دون لغته التي تعكس وجهه. وكيف تكون الهوية الوطنية ناصعة سليمة معافاة ولغتها تعاني ما تعاني، وليست لها خطة وسياسة لغوية ترجع إليها لتصونها وتجعلها تزدهر وتتقدم، خطة استراتيجية تهيأ لها كل السبل والأدوات لتساعد هذا المقوم المهم على أداء دوره الحضاري؟!

في عالمنا اليوم الذي يتسم بهيمنة اللغات العالمية الأقوى، ووجود اللهجات العامية الأكثر استخداماً في التواصل اليومي بين الأفراد، وتراجع اللغة العربية في التدريس الجامعي، تحتاج اللغة العربية إلى استراتيجية شاملة بعيدة المدى، تخطط لوضعها في الحياة عموماً والمؤسسات الرسمية والخاصة والمدارس، وتهيئة المناخ القانوني والأكاديمي والاجتماعي، لتزدهر وتعزز بدورها الهوية الوطنية.

 

Email