سوريا وسيناريوهات النهاية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعرف العسكريون المحنكون أن مآلات أي حرب مباشرة بين طرفين، تعتمد أساساً على الميزات النسبية لكل طرف، فلا ميزات مطلقة لأي طرف مهما توفَّر على الغلبة الظاهرة في القوة والمعدات, ذلك أن ساحة الحرب ومآلاتها هي التي تقرر التميز الحقيقي.

وبهذا المعنى ينهزم الجيش المُدجج بكل أنواع الأسلحة في حروب المدن، إذا كانت المُجابهة مع المليشيات الصغيرة والمنتشرة أُفقياً، والتي تعتمد في حركتها على الكر والفر، وقضم أطراف العدو وإرباكه.

وقد لاحظ علماء الحروب التاريخية، أن من أسباب الانتصارات الباهرة للمسلمين أثناء الفتوحات، أنهم اعتمدوا على السيف اليماني خفيف الوزن، بالإضافة إلى عقيدتهم القتالية المستمدة من ثقافة الشهادة، فيما كانت أجسادهم النحيلة وخيولهم غير المثقلة بالسروج الخشبية، سبباً آخر في هزيمة الجيوش الرومانية ذات السيوف الثقيلة، والفرسان المكبلين بالأحمال، والخيول التي تئن تحت وطأة السروج والحديد.

في الصين استطاع الحزب الشيوعي الصيني هزيمة جيش حزب "الكومنتانغ" الحاكم، عبر اعتماد جيش الثوار اليساريين على الفرق الصغيرة التي انتشرت في كل أرجاء الصين، واستطاعت إسقاط جيش الكومنتانغ الرسمي من خلال النهش في أطرافه، وإرباك استراتيجياته القائمة على الحرب النظامية، وصولاً إلى تقويضه.

وفي فيتنام بدت عبقرية حروب الجماعات الصغيرة المقرونة بالعقيدة السياسية والدعم الشعبي ظاهرةً، حيث تمكَّنت الزعامة الروحية للقائد "هوشي منه" من تحقيق الالتحام بين الشعب وقيادته، كما ترجم الجنرال الفيتنامي العبقري "جياب" تلك العقيدة من خلال حروب العصابات، التي أنهكت الوجود الأمريكي المُدجج بأحدث الأسلحة والمعدات.

ما حدث ويحدث في سوريا يعيد إلى الأذهان تلك المفارقة، التي تجعل التميُّز لغير صالح الجيش النظامي الذي يلجأ إلى دك المدن بالمدفعية والراجمات والطائرات، فيكون بذلك قد أسهم في تعزيز مليشيات الجيش الحر بالمزيد من الدماء، لأن من لم يكونوا ملتحقين بالجيش الحر سيلتحقون به كلما طالتهم النيران الحامية للقوة المنظمة، التي لا تفرق بين مقاتل يتمنطق الكلاشينكوف وبين مواطن قابع في بيته انتظاراً للفرج.

عشت تجربة 13 يناير المشؤومة في عدن عام 1986، ورأيت بأُم عيني عجز أسلحة الطيران والبحرية والمدفعية والراجمات، عن تحقيق شيء لصالح الطرف الذي كان يعتدُّ بها، فيما حسمت أسلحة الدروع المتوسطة الموقف لصالح الطرف الآخر.

تلك عبرة لمن يعتبر، والواضح أن منطق الجيش النظامي السوري سيؤدي به إلى هزيمة مؤكدة، ليُمهد بذلك لسقوط النظام برمته، إن لم تتم تسوية سياسة عاجلة من خلال تفاهم الكبار؛ أمريكا ومن معها، وروسيا ومن معها.

لكن هذه الفرضية قد لا تكون الوحيدة في معادلة التسوية والحل، خاصة إذا استمر التباعد الأمريكي الروسي في الرؤية تجاه المسألة السورية، وفي تلك الحالة لا بد من سيناريوهات داخلية تفرض نفسها بالتراتب مع العد التنازلي الظاهر، وهذه السيناريوهات تؤدي بجملتها إلى نهاية النظام، ولكن بكيفية غير مُشرفة. والخيارات الماثلة أمام النظام تتلخص في الاحتمالات التالية:

الأول؛ أن تتم التسوية السياسة بضغط دولي يؤدي إلى نموذج قد يكون مُشابهاً للموديل اليمني.. لكنني أستبعد ذلك، لأن الموديل اليمني في انتقال السلطة سبقته مقدمات تتصل بالخصوصية اليمنية، نابعة من انشقاق أساسي في مؤسستي الجيش والحزب الحاكم، بالإضافة إلى فشل النظام في السيطرة على العاصمة صنعاء ذاتها، مما جعل قبول المبادرة الخليجية خياراً لا مفر منه أمام الرئيس السابق علي عبد الله صالح ومن معه، وخاصة في اللحظة التي أدركوا فيها أن مجلس الأمن الدولي بصدد اتخاذ قرارات حاسمة، تأييداً للمبادرة الخليجية، وتفعيلاً للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبموافقة روسية صينية ناجزة.

في الحالة السورية أستبعد مثل هذا السيناريو بعد أن تجاوز العنف كل الاحتمالات، وأصبحت سوريا تئن تحت وطأة القذائف والقتل.

الخيار الثاني أمام النظام يتلخَّص في هروبٍ مخْملي لرأس النظام والأقربين له، وربما كوكبة من جنرالاته. لكن خيار اللجوء لدولة ثانية قد يصطدم بانقلاب داخلي تديره كوكبة الجنرالات "الأشاوس"، من الطائفيين الاستيهاميين ضيقي الأفق، وقد يتم هذا الانقلاب بتنسيق مع رموز راكزة ممن يهمُّهم ترميم النظام لأسباب كثيرة لسنا بصددها.

الخيار الثالث هو أن يقبع الرئيس بشار الأسد ومن معه في مربع العناد، الذي يذكرنا بمصير هتلر والقذافي، وهو مصير محتوم إذا استمرت تداعيات الداخل بذات الزخم الماثل.

السيناريو الرابع، والمحكوم عليه بالفشل المسبق، ويتلخص في أن يعتصم رأس النظام ومن معه بالمناطق الجبلية المحاذية للبحر، ليجافي كامل مقولاته القومية الفضفاضة، ويعيد إنتاج النواة الطائفية التي طالما تغلَّفت بالشعارات البراقة، ذلك أن الاعتصام بجبال الشرق يومئ إلى مشروع دولة طائفية علوية يرفضها العلويون الراشدون قبل غيرهم، ولن تكون في محصلتها سوى خاصرة رخوة في سوريا الكبيرة المُسيَّجة بعبقرية التنوع.

هذه السيناريوهات الافتراضية لا تدخل في باب الأمنيات، بل إنها محاولة استقراء موضوعية لجدلية العلاقة بين التاريخ وحتميته، والإرادات وأحلامها الطوباوية.

 

Email