الإسلامويون والديمقراطية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في غمرة دفاعه عن الاستفتاء على مسودة الدستور الجديد، تساءل المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين المصريين محمد بديع، في مؤتمره الصحافي (السبت 8 ديسمبر) أكثر من مرة: "أليست هذه هي الديمقراطية؟".

جاء خطاب المرشد في ذروة اشتباكات قصر الاتحادية، وفي تلك الأيام أيضا، كان قيادي بارز في الجماعة هو وجدي غنيم، يصف معارضي الرئيس محمد مرسي المحتشدين أمام قصر الاتحادية، بأنهم "كفرة وعلمانيون ملاحدة وصليبيون".

يفصح تساؤل المرشد واتهامات غنيم، عن إشكالية الديمقراطية لدى الإخوان المسلمين وعموم الإسلاميين. إشكالية اختزال الديمقراطية بمفهوم "الأغلبية والأقلية" فقط، بمقياس وحيد هو صندوق الاقتراع، أي بمقياس عددي فحسب.

فالاحتكام لصناديق الاقتراع هو ركن واحد للديمقراطية، وليس هو الديمقراطية كلها. والتاريخ يقدم أمثلة بارزة وشاخصة، تثبت أن الكثير من الدكتاتوريات أسسها زعماء وصلوا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع: أدولف هتلر في المانيا هو المثال البارز.

لقد وصل هتلر إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لكنه لم يلبث أن قام بتدشين واحدة من أسوأ الدكتاتوريات في تاريخ العالم الحديث؛ اضطهاد الخصوم السياسيين والأقليات، حكم الحزب الواحد، وقبضة أجهزة الأمن القوية والمليشيات (الشبيبة الهتلرية)، وسوق الألمان وشعوب أوروبا إلى محرقة الحرب العالمية الثانية، واحتلال دول وإخضاع شعوب أخرى.

 فهل يمكن أن يبرر مفهوم الأغلبية والأقلية وصندوق الاقتراع لهتلر وحزبه النازي، أن كل ما قاموا به كان من صميم الديمقراطية وبتفويض شعبي عبر صناديق الاقتراع؟

في المقابل، فإن تصريحات وجدي غنيم والنعوت التي يستخدمها لوصف الخصوم السياسيين، تفصح عن قصور في فهم الأركان الحقيقية للديمقراطية لدى الإخوان وعموم الإسلامويين. فتلك النعوت التي أطلقها على الخصوم (كفرة وعلمانيين ملاحدة وصليبيين) تنطوي على "تحقير" لمواطنين مصريين مثله، وإن اختلفوا معه سياسياً.

ينطوي هذا على خلل، بل نوع من العصاب في فهم الديمقراطية، لأنه يتصادم مع ركن آخر من أركان الديمقراطية: "احترام حرية التعبير". كيف يستقيم "تحقير" الخصوم السياسيين مع "احترام حرية التعبير" باعتباره ركنا أصيلا وثابتاً للديمقراطية؟

إن الديمقراطية ليست ذهابا متكررا لصناديق الاقتراع، لأن هذا فعل متكرر في الأنظمة الدكتاتورية كلها. وفي مصر، ظل المصريون يذهبون إلى صناديق الاقتراع طيلة 30 عاما من حكم مبارك، بل ومنذ العهد الملكي، فما هو الفارق إذاً؟ ولماذا انتفض المصريون ضد حكم مبارك طالما أنهم كانوا ينعمون بديمقراطية الذهاب المتكرر إلى صناديق الاقتراع؟

سيقودنا هذا التساؤل إلى الأركان الأخرى للديمقراطية الغائبة في وعي الإخوان وأمثالهم: حرية التعبير، فصل السلطات، الشفافية، احترام الأقليات (السياسية، الدينية، العرقية.. الخ)، الرقابة على أداء السلطة، استقلال القضاء، المحاسبة.

وإذا كانت المعركة الدائرة في مصر منذ أواخر نوفمبر الماضي (وقبل ذلك أيضاً) قد أظهرت شيئاً، فهي أظهرت وبجلاء أن فهم الإخوان المسلمين وبقية المتأسلمين للديمقراطية، هو فهم مجتزأ تماماً.

لكن أهمية التوقف عند هذا الفهم المجتزأ، تكتسب أهمية مضاعفة في الحالة المصرية.

فالإطاحة بالدكتاتورية وحكم العسكر، توجب مهمة تاريخية هي بناء دولة مدنية، عبر إرساء نظام سياسي جديد ينهي كل عوامل التأزيم التاريخية، المتمثلة خصوصاً في احتكار السلطة، ولن يكون هذا ممكنا إلا بترسيخ أركان الديمقراطية حقيقة ثابتة في الحياة اليومية.

لكن من الواضح أن الإخوان والإسلامويين المصريين، وبتأثير اختزال الديمقراطية في مفهوم الأغلبية والأقلية، ساروا في منحى آخر يعيد إنتاج الأزمة التاريخية ولا يحلها، عبر صياغة مسودة دستور يعيد تكريس آليات احتكار السلطة، ضمن فهم مغلوط لتحقيق أحلام أيديولوجية وبشكل لا يخلو من تهافت.

فالخلاف على مسودة الدستور الذي دفع بمصر من جديد إلى حالة احتراب أهلي، إنما هو خلاف على طبيعة الدولة.

هذا الفهم المجتزأ للديمقراطية ليس إشكالية لدى الإسلامويين فحسب، بل هو مشكلة الأحزاب الأيديولوجية جميعها.

وقراءة التاريخ وتجارب النازية والفاشية والشيوعية والأنظمة الإسلاموية في بعض الدول، تشير دون ريب إلى أن الإيديولوجيا وأحلامها وجناتها الموعودة، تخلق نوعاً من الانفصام بين إيديولوجيا الخلاص في كل نسخها هذه (المدنية مثل النازية والفاشية والشيوعية، والدينية مثل الإسلامويين لدينا)، وبين الديمقراطية بكل أركانها الحقيقية.

هذا الفهم المجتزأ للديمقراطية لا تظهره إلا معارك الأخلاق والفضيلة، التي تمثل المكون الأساسي لحركة وخطاب الإسلامويين السياسي، كالمعارك التي يخوضها نواب الإخوان و"السلفيين" وغيرهم من الإسلامويين (الذين وصلوا للبرلمان عبر صناديق الاقتراع أيضا) ضد الحريات الفردية، بدءاً بمساعي فرض ضوابط السلوك واللباس، وصولا إلى محاربة حرية التعبير والعداء للفنون والثقافة.

ففي كل هذه المعارك ومع فئات عدة في مجتمعاتهم، لا يرى الإسلامويون في خصومهم أكثر مما قاله وجدي غنيم بحق خصومه السياسيين: "كفرة، علمانيون وملاحدة وصليبيون"، مكررين على نحو مدهش فهمهم للديمقراطية على أنها مجرد غلبة عددية. ولعل هذا أيضا ما يفسر ذلك الهوس المرضي بربط الديمقراطية بالانحلال دوماً، في خطاب هؤلاء.

أخطر ما أثبتته التجربة البشرية لهذا الفهم المجتزأ والميكانيكي للديمقراطية، هو أنه الطريق الوحيد نحو تحويل الديمقراطية إلى أداة للقسر والإكراه فحسب.

ولعل هذا وحده قد يفسر هذا التنوع في معارضي الرئيس مرسي والإخوان وعموم الإسلامويين، في كتلة جماهيرية واسعة، مختلطة سياسياً (أحزاب مختلفة ومتباينة التوجهات)، وطبقياً (فئة وسطى وما دون)، ومتنوعة عمرياً (شبان وكبار وربات بيوت)، ودينياً (مسلمون وأقباط)، ومن الجنسين (نساء ورجال)، ومتنوعة ثقافياً.

فهؤلاء لا يجمعهم سوى الرغبة في التخلص من كل أشكال "القسر والإكراه"، أي كل ما ثاروا ضده في ثورة فريدة من نوعها في 25 يناير 2011.

 

Email