خطاب جديد لمرحلة جديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الزيارة التي قام بها مؤخراً إلى غزة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وخمسة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، سبقتهم عائلة مشعل، هذه الزيارة تنطوي على أبعاد سياسية وتنظيمية ووطنية هامة، وما كان لها أن تتم لولا التطورات التي تشهدها المنطقة العربية، وخصوصاً مصر، والتداعيات التي رافقت وأعقبت العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، والذي حققت خلاله المقاومة إنجازاً لا يستهان به، حين نجحت في إفشال أهداف العدوان وأرغمت نتنياهو على الاتصال بمصر طلباً للتهدئة.

كان من الواضح أن نتنياهو شن العدوان وهو مكبل اليدين، سواء بالأهداف غير المقنعة للشارع الإسرائيلي، وأهمها الهدف الانتخابي الحزبي، أو بسبب التدخلات الدولية ومن بينها الأميركية التي لم تتح للحكومة الإسرائيلية الفرصة، ولم تمنحها الغطاء لتصعيد العدوان، خشية أن يؤدي ذلك إلى خلط الأوراق في المنطقة، وإفساد السياسة الأميركية.

وقد جاءت الزيارة أيضاً بعد الإنجاز الذي حققته منظمة التحرير الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث حصل الطلب الفلسطيني لدولة غير عضو على 138 صوتاً، فيما لم يعارض سوى تسعة أصوات فقط، الأمر الذي يظهر مدى العزلة التي تعاني منها إسرائيل دولياً.

وفي وقت لاحق، صوتت الأمم المتحدة بأغلبية 178 صوتاً على قرار غير مسبوق في تاريخها، يفرض على إسرائيل فتح منشآتها النووية أمام الرقابة الدولية، الأمر الذي جعل قادة المعارضة في إسرائيل يعترفون بفشل العدوان، وبالعزلة الدولية التي تعاني منها إسرائيل.

 بإمكان نتنياهو أن ينكر وقائع الفشل والعزلة، وأن يرسل طائراته الحربية لكي تجوب أجواء قطاع غزة لساعات مساء يوم الأحد، أي قبل يوم واحد من مغادرة مشعل وزملائه قطاع غزة، في استعراض لا معنى له، وللإيحاء بأنه لايزال يملك قوة الردع التي تآكلت، ولامتصاص النقمة التي ولدتها تصريحات قادة المعارضة، الذين عبروا عن غضبهم من زيارة مشعل وهددوا بقتله، لكن نتنياهو لم يكن قادراً على أن يفعل شيئاً إزاء ذلك.

بعض قادة حماس ينكرون أن مشعل وزملاءه لم يكن لهم أن يدخلوا قطاع غزة وأن يتجولوا في سيارات مكشوفة ومواكب، بدون ضمانات مصرية استبقتها عملية تنسيق مع الجانب الإسرائيلي، الذي وافق على دخول مشعل ورفض زيارة مماثلة كان زعيم الجهاد الإسلامي رمضان شلح يرغب في القيام بمثلها.

الموافقة الإسرائيلية على زيارة مشعل، والرفض لزيارة شلح، يشيران إلى المكانة التي تحظى بها حماس كحركة سياسية، وليس فقط حركة مقاومة، وإلى الدور الذي ينتظرها في قادم الأيام.

لقد أكدت حركة حماس حضورها القوي في المشهد السياسي الفلسطيني والعربي والإسلامي والإقليمي، حيث أمت قطاع غزة، بعد توقف العدوان عليه، عشرات الوفود الرسمية والشعبية العربية والإسلامية، وبعضها جاء من دول أوروبية، والكثير من تلك الوفود شارك في الاحتفال الجماهيري الحاشد الذي أقامته حركة حماس بحضور زعيمها، بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها.

الإنجاز الذي حققته المقاومة خلال تصديها للعدوان الأخير على قطاع غزة، والاحتفالات الشعبية التي شملت كل أنحاء القطاع، ولدت لدى قيادة حماس قدراً عالياً من الثقة وقدراً من التوازن، الأمر الذي انعكس جلياً في خطابات مشعل، ودعواته المتكررة، وبلغة واضحة، وبحماسة لتحقيق المصالحة الوطنية في أقرب الآجال.

هذه الثقة تعكس، أيضاً، قدراً من الاستقرار التنظيمي في حركة حماس، حيث تصرف خالد مشعل، وتصرف الآخرون من زملائه معه، على أنه حسم مسألة رئاسة المكتب السياسي لصالحه. وتأكد ذلك فيما بعد، حين صرح موسى أبومرزوق لوكالة "سما" الإخبارية، بأن ثمة عراقيل تحول دون استبدال خالد مشعل على رئاسة المكتب السياسي في هذه المرحلة.

كان من الواضح جداً أن مشعل اعتمد خطاباً يسمو فوق الفصائلية، وينطوي على أبعاد وطنية برؤية للمستقبل واضحة، تقوم على إنجاز المصالحة، والانخراط في منظمة التحرير الفلسطينية، التي قال عنها مشعل إنها المرجعية الوطنية، وأبدى استعداد الحركة المشاركة في انتخابات ديمقراطية نزيهة.

مشعل الذي أثنى على المقاومة ودورها وبطولاتها، فتح الأفق أمام إمكانية التوصل إلى توافق سياسي فلسطيني، مما يعني أن الحركة بصدد تصعيد دورها السياسي للمرحلة المقبلة، دون التخلي عن برنامج المقاومة، الذي تأكدت أولويته في النضال من أجل تحرير فلسطين.

الإسرائيليون أزبدوا وأرعدوا وتوعدوا وهددوا، ولكن أياديهم مكبلة، وأشد ما أغضبهم المصداقية والجدية التي تحدث بها مشعل حول الوحدة الوطنية والمصالحة، والتي في حال تحققها، وهو أمر أصبح ممكناً، ستطيح بالمخططات الإسرائيلية التي راهنت على دوام الانقسام، وفصل قطاع غزة، ودفعه نحو مصر.

إسرائيل باتت تدرك أكثر من أي وقت مضى، محدودية قدرتها على أن تواصل دور اللاعب الرئيسي في المنطقة، والذي يقرر للآخرين أدوارهم ومواقفهم من موقع رد الفعل.

فلقد شكل إنجاز المقاومة، وإنجاز السياسة في الأمم المتحدة، بداية لتحول الفلسطينيين نحو مغادرة سياسة رد الفعل إلى المبادرة. فالربيع العربي المفتوح على آفاق واعدة للقضية الفلسطينية، ولحركة حماس على نحو خاص، وعزلة إسرائيل الدولية المتزايدة، فضلاً عن رغبة الرئيس الأميركي في معاقبة نتنياهو وحكومته، هذه العوامل باتت تؤشر إلى تغير في قواعد اللعبة السياسية في المنطقة، على نحو لا يخدم سياسة التطرف الإسرائيلية.

ويبدو أن المرحلة المقبلة محملة بوعود حقيقية لإنجاز المصالحة الفلسطينية، وإعادة بناء مؤسسة القرار الفلسطيني، على نحو يفتح أمام حركة حماس الفرصة لخوض التنافس الديمقراطي من داخل المؤسسة، على سلطة القرار الفلسطيني.

على أن تحقيق المصالحة أيضاً، بما أنها ضرورة وطنية فلسطينية، من شأنه أن يشكل استفزازاً قوياً لإسرائيل، مما قد يدفعها إلى شن حروب وعدوانات صعبة على الشعب الفلسطيني، وعند ذلك فإن المرحلة ستفتح من جديد على صراع واشتباك واسع، يصعب تطويقه والسيطرة عليه.

 

Email