من غرائب لعبة السياسة!

ت + ت - الحجم الطبيعي

من غرائب طلاسم السياسة أننا نجد روسيا التي ثار شعبها في التاريخ مرتين لأجل الحرية؛ مرة ضد نظام القياصرة ومرة ضد نظام الشيوعية، هي نفسها من يحمي اليوم النظام الوراثي والدكتاتوري في سوريا! وأن الغرب بقيادة دول كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا، التي قدمت خيرة شبابها من أجل التحرر لمرتين أيضا: مرة للإطاحة بالأنظمة الملكية وتحويلها إلى دول ديمقراطية منتخبة.

ومرة أخرى ثورتها ضد هيمنة وفساد الكنيسة لفصلها عن الدولة، وبالتالي تحويل بلدانهم إلى دول تعيش فيها كافة الأديان في سلام وأمن، والتي وصلت بها العلمانية مبلغها في السنوات الأخيرة حتى رفضت إشهار أي مظهر من مظاهر عقيدة الفرد في الملبس أو حتى في المأكل.

كما هو بالنسبة لفرنسا في ما يتعلق بقانون حظر الحجاب والنقاب وحتى الذبح على الطريقة الإسلامية، نجد أن هذه الدول هي نفسها التي تدعم اليوم وتساند المقاتلين من جماعة الإخوان المسلمين في مدن سوريا، رغم أنهم ينوون صراحة استبدال النظام الحالي بنظام آخر يقوم على تطبيق الحكم الإسلامي الأصولي فيها، مدعومين بحكم الإخوان المسلمين في مصر!

ومن الغريب أن الولايات المتحدة الأميركية التي عرفت هي أيضا في تاريخها ثورتين رئيستين: الأولى للتحرر من الاستعمار البريطاني عام 1776، والثانية بقيادة مارتن لوثر كنغ للتخلص من استعباد البيض للزنوج ، نجد أن أميركا هذه هي نفسها التي تدعم اليوم وبكل قوة نظام القمع والديكتاتورية والعنصرية في إسرائيل، ضد شعب آخر لا يبعد كثيراً جداً عن حدود سوريا، وهو الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة!

ومع أن دساتير هذه الدول التي أشرنا إليها ترفض وبشدة أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية أو المساس بها، فإنها هي نفسها تتدخل اليوم علناً في الشأن الداخلي المصري والليبي والتونسي، وبشكل أكثر خبثاً في أحداث سوريا الدامية، من خلال دعم المعارضة بالسلاح والتخطيط والتنظيم لها!

إن الثورة في سوريا ربما كان قد قضي عليها في مهدها وما كانت لتحقق كل هذه المكاسب، لولا التدخل والدعم الأجنبي الخارجي لها، على المستوى الإعلامي واللوجستي والاستخباراتي، غير أن هذا التدخل غير المباشر الذي لم تقره الأمم المتحدة بعد في دائرة الصراع السوري السوري، لن يكون من غير مقابل. وإلا فما تفسير كل هذا الدعم الغربي العلماني لنظام إسلامي أصولي يجاهر بعدائه لنظام الغرب ويهدد بتدمير إسرائيل؟

الشعب العربي مع الأسف الشديد، ما زالت تهيمن عليه عقدة الخواجة، وتحكمه رعونته في سرعة الحكم على الأمور. فشعاراته (قبل) لا تترجم أفعاله (بعد). وبقدر ما أعجب البعض (ممن يقيسون الأمور ظاهريا) بشعارات العداء التي حملها الإخوان المسلمون في مصر للسياسة الأميركية في المنطقة، بقدر ما شعر هؤلاء المهتمون بالإحباط الشديد وفقدان الثقة من رؤية هؤلاء الإخوان يجرون خلف مصافحة هيلاري كلينتون.

ويطيرون إلى واشنطن سراعا لمقابلة المسؤولين الأميركيين لطلب مباركتهم لأي خطوة قبل أن يخطوها. ولا كأن الشعب المصري قد قدم للتو هذا العدد الهائل من الشهداء لأجل تحرره من النفوذ الغربي! لذا، لم يواجه الغرب في تعامله مع الأنظمة الجديدة، أي عائق أمام استمراره في الحفاظ على مصالحه التي كان يديرها في غرف سرية في قصور الأنظمة الدكتاتورية السابقة.

إن الدعم الغربي لهذه الثورات بطرق سرية، أو في المقابل دعم دول أخرى كروسيا لنظام متهم بالدكتاتورية، رغم تعارض مواقف الطرفين مع مبادئهما وتاريخهما ونضالهما ودساتيرهما، يجب أن يوضع على طاولة البحث والتحقيق. فشباب الثورات ونؤكد هنا على كلمة "شباب"- في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، لم يخرجوا .

كما توهم البعض لإسقاط شخصيات فاسدة على شاكلة مبارك وبن علي والقذافي وصالح والأسد، بل خرجوا لإيقاف تسلط ونفوذ الدول الاستعمارية الكبرى على مصير شعوبهم. والدول الغربية الديمقراطية لا يعنيها من يحكم، بل من يرعى مصالحها، أيا كان شكله أو دينه!

غير أنه يبدو أن الجماعات التي تلقفت انتصار شباب الثورات العربية ووضعتها في جيوبها، لم تفهم الرسالة، ويخشى أن يظل البيت العربي كما يقول المثل العراقي: "تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي".

وفي العراق مثال حي على ما نقول..

 

Email