مصر والعودة إلى المربع الأول

ت + ت - الحجم الطبيعي

على خلفية الفوران الشعبي الشامل في الشارع السياسي المصري، أدلى د. محمد البرادعي بالتصريح الإعلامي التالي: «لن أندهش إذا نزل الجيش إلى الشوارع ليمارس مسؤوليته في منع الفوضى وحماية الوطن..». وتابع: «عندما ينزل الجيش لحفظ الأمن فإنه سيعود حتماً إلى السلطة، وإذا نزل الجيش في ظروف قاسية فإنه سيبقى في السلطة».

هذا القول خطير في حد ذاته، لكنه يكتسب خطورة مضاعفة إذا استدعينا إلى الأذهان أن د. البرادعي بتزعمه «حزب الدستور»، يحتل موضع المقدمة بين القيادات السياسية في ائتلاف المعارضة، الذي يتصدى لسلطة الحكم التي يسيطر عليها تنظيم «الإخوان المسلمين». من هذا المنظور يصير مغزى التصريح الخطير أكثر وضوحاً، فقراءة ما بين السطور لا تفيد إلا بأن د. البرادعي يرمي إلى تهيئة الذهن الجماعي لجماهير الشارع المصري، لأن الجيش عائد إلى السلطة لا محالة وأنه شخصياً يستبشر خيراً بذلك.

الأزمة المصرية متفاقمة على نحو يومي، منذ أن أصدر رئيس الجمهورية د. محمد مرسي «الإعلان الدستوري» الذي رأت المعارضة أن نصوصه تنطوي على ترتيب يجعل من رئاسة الجمهورية مؤسسة دكتاتورية استبدادية بالمطلق.

وتصاعدت حالة التفاقم بعد أن أصدر الرئيس قراراً يقضي بعرض مسودة الدستور على استفتاء شعبي، بعد أن أنجزت «اللجنة التأسيسية» هذه المسودة. وائتلاف المعارضة يرفض هذا الترتيب أيضا، قائلاً: إن اللجنة لا تمثل غالبية الشعب المصري، وبالتالي فإن المسودة غير شرعية.

والسؤال الذي يطرح هو: هل فعلاً تنحصر مطالب المعارضة في مسألتي الإعلان الدستوري ومشروع الدستور الجديد؟

أجل، تلك كانت البداية، لكن مع مرور الأيام تحول المطلب الرئيسي لقيادات المعارضة إلى شعار «إسقاط النظام». فالمطالبة المبكرة بإلغاء الإعلان الدستوري ومسودة الدستور لم تكن سوى مدخل، والدافع الأعظم لهذه المطالبة هو تخوف قوى المعارضة من ما سوف يأتي بعد نهاية المرحلة الانتقالية. وقد بلغ هذا التخوف أعلى ذراه عندما أعلن الرئيس مرسي قراره بعرض مسودة الدستور على استفتاء شعبي، إذ إن ما سوف يعقب إجازة المسودة هو عقد انتخابات برلمانية جديدة يعلم قادة المعارضة علم اليقين أن فرصتهم ضئيلة للفوز فيها.

وبما أن قوى المعارضة تدرك ألا حظ لها عبر صندوق الاقتراع لإسقاط النظام «الإخواني»، فإنها قررت تحويل مراهنتها إلى الشارع لتهييجه، لاستثارة فوضى عارمة متصاعدة الإيقاع والزخم، حتى ترغم الرئيس مرسي على إلغاء مشروع الدستور. في هذا الصدد تقول صحيفة «الغارديان» اللندنية في مقالة تحليلية: «إن قيادة المعارضة تخشى الانتخابات البرلمانية القادمة مثلما تخشى الموت.

حيث إن الانتخابات سوف تعني أن الشرعية بيد الشعب، سبق أن فشل قادة المعارضة في نيلها كما أثبتت نتائج الانتخابات البرلمانية السابقة»، التي اكتسحها «حزب الحرية والعدالة» التابع لتنظيم الإخوان المسلمين.. علماً بأنه إذا فاز الحزب أيضاً في المعركة الانتخابية المقبلة، فإن ذلك سوف يعني تجديد بقائه في السلطة لأربع سنوات قادمة.

إن المشهد أعمق مما يدل عليه من السطح، فهناك أجندة خفية تشير إليها قرائن متنامية، في مقدمتها انسحاب عناصر المعارضة في المرحلة الأخيرة من عمر اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور، فقد ظلوا مشاركين في أعمال اللجنة لمدى خمسة شهور. لقد كان انسحاباً فجائياً مثيراً للارتياب، وهنا تتساءل «الغارديان»:

أي دستور «مطبوخ» يتحدث عنه عناصر المعارضة عندما شاركوا في صياغة كل مادة فيه حتى اللحظة التي انسحبوا فيها من اللجنة؟.. وهو انسحاب حدث ولما يتبق شيء سوى المراجعة الأخيرة للصياغة، بإضافة أو حذف كلمة هنا أو هناك.

ويبقى السؤال: لماذا انسحبوا فجأة؟ وللإجابة على هذا السؤال علينا أن ننبه إلى أن جبهة المعارضة أكبر مما تبدو عليه في الظاهر. إنها تتكون من ثلاثة أقطاب، أحدها علني واثنان في الخلفية.

في الواجهة «جبهة الإنقاذ الوطني» التي تتصدرها ثلاث قيادات: محمد البرادعي وعمرو موسى وحمدين صباحي. أما الاثنان الآخران اللذان يعملان من وراء ستار، فهما نادي القضاة ومجموعة شخصيات نافذة من فلول نظام مبارك. وما يجمع بين هذه الفئات المعارضة الثلاث، هو مخطط يهدف إلى الإطاحة بسلطة الرئيس مرسي.

هنا نرجع إلى تصريحات البرادعي ودعوته شبه الصريحة للمؤسسة العسكرية للتدخل واقتحام المشهد القائم، «ليمارس الجيش مسؤوليته في منع الفوضى وحماية الوطن» على حد قوله. ولو أفصح البرادعي عن ذات نفسه بالكامل لقال:

إن هناك «سيناريو» أصبح جاهزاً للتنفيذ على النحو التالي: مجموعات المعارضة تمضي في تصعيد الهيجان في الشارع وتوسيع نطاقه. ثم تنتقل حمى الهيجان من مرحلة التظاهر السلمي إلى مرحلة استخدام العنف في الشارع ضد جماهير أنصار الرئيس مرسي، فتقع صدامات دموية

. وبدعوى وضع نهاية للعنف الدموي ينزل الجيش إلى الشارع.. ويستولي على مقاليد السلطة معلناً حالة طوارئ جديدة. وهكذا يعود «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» إلى الحكم استعداداً لإعادة إنتاج نظام مبارك. هكذا تعود مصر إلى المربع الأول، ولا يتبقى سوى أن أقول: أتمنى أن أكون مخطئاً.

 

Email