في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكثر من ستة عقود مرت على ذلك اليوم التاريخي الذي تم فيه تحرير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فما هي الدروس والعبر؟ وأين نحن من واقع هذه الحقوق؟ وهل حقاً استفادت الإنسانية من دمار الحربين العالميتين وسلمت نفسها لمنطق التعايش السلمي والأمن والاستقرار الدوليين؟

منطق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يقوم أساساً على المفهوم الواضح والصريح للعدالة في المعاملة والمقاييس والمعايير، وعدم التمييز والتفرقة بين الشعوب والأعراق والأجناس، سواء أكانوا من سكان الشمال أم الجنوب أم كانوا ينتمون لدول فقيرة أو غنية. لكن العقود الستة الماضية تشير إلى انتهاكات وتجاوزات عديدة، تفننت فيها الدول نفسها التي شاركت في تحرير الإعلان.

والتي نصبت نفسها مسؤولة عن البشرية جمعاء، لكن وفق وجهة نظرها ورؤيتها ووفق معاييرها وشروطها. ما يمكن قوله إن حقوق الإنسان مثلها مثل الديمقراطية ومصطلحات عديدة أخرى، أصبحت سلطة تمارس وتوظف في لغة السياسة والدبلوماسية، وتستعمل كوسيلة ضغط على عدد كبير من الدول التي تخرج عن سكة صانعي النظام الدولي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ميثاق حقوق الإنسان منذ ظهوره، اتسم بثغرات ومصطلحات مبهمة وتناقضات عديدة، تختلف مع قيم الكثير من المجتمعات ومعتقداتها الدينية وتقاليدها وعاداتها…الخ. .

وإذا رجعنا إلى فلسفة حقوق الإنسان وإلى الثورة الفرنسية تحديداً، نجد أن المحور الأساسي يتعلق بترسيخ الشعور في نفسية المواطن بالتحرر من الاستبداد والعبودية والاستغلال والتبعية، وطغيان طبقة أو فئة معينة في المجتمع على باقي الطبقات والشرائح الاجتماعية. وهذه الأمور مع الأسف الشديد، قائمة وموجودة داخل الدول وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل بإمكاننا أن نضمن حقوق الإنسان لمواطني دولة مستعمرة (بفتح الميم)؟ وهل بإمكاننا ضمان حقوق الإنسان في دولة تابعة ومسيطر عليها خارجياً من قبل دولة أو دول أو نظام دولي؟ إشكالية حقوق الإنسان معقدة، وأصبحت في عصر العولمة وسيلة ضغط في يد الدول القوية (حق التدخل)، للتحكم في مسار العلاقات الدولية وفق مصالحها وأهدافها. ومن أهم التناقضات التي يعيشها العالم في هذا المجال، ما يلي:

نلاحظ أن دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية "المدافع الأول عن حقوق الإنسان"، ضربت عرض الحائط بهذا المبدأ في بلدها وداخل حدودها في تعاملها مع السود والهنود الحمر- السكان الأصليين لأميركا- والأقليات الأخرى ومنهم العرب، ونلاحظ كم من مواطن عربي اتهم وسُجن وطُرد من أميركا دون محاكمة ودون أدلة قاطعة، ودون عدل ولا شرع.

ومثال سجن غوانتانامو لدليل آخر على غطرسة أميركا وضربها عرض الحائط بحقوق الإنسان. وما ينسحب على أميركا ينسحب على معظم الدول الأوروبية والدول المتقدمة؛ فرنسا مثلاً في تعاملها مع المسلمين ومع مواطني شمال إفريقيا، تبتعد كلياً عن شيء اسمه حقوق الإنسان، وقصة الفتاتين المغربيتين والمنديل قصة، وقصة محاكمة "غارودي" واغتيال "مهدي بن بركة"، تبقى وصمة عار على دولة تدعي في شعاراتها "الحرية الأخوة - المساواة" وتمجد وتقدس حقوق الإنسان.

نلاحظ كذلك أن الدول الفاعلة في النظام الدولي، تساند وتدعم أنظمة مستبدة ودكتاتورية في العالم الثالث، وهذا يتناقض جذرياً مع مبدأ حقوق الإنسان، لأن هذه الدول وبحكم نظامها السياسي السلطوي، لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحترم حقوق الإنسان، إذ أنعدمت فيها الحريات الفردية وحرية الفكر والرأي والتعبير والفصل بين السلطات.

والغريب أن الدول الغربية تساند هذه الدول النامية لفترة زمنية معينة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية، وبعد ذلك تنقلب عليها مثل ما حدث مع الولايات المتحدة وبنما، والولايات المتحدة و"بينوتشي"، وكذلك عندما تدخلت دول غربية في إطاحة حكومات دول انتخبت بطريقة ديمقراطية في العالم الثالث، فمبدأ حقوق الإنسان بالنسبة للدول الغربية ينتهي عندما تبدأ مصالحها.

نلاحظ كذلك أن الولايات المتحدة التي نصّبت نفسها رقيب حقوق الإنسان في العالم، تكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بإسرائيل وبأطفال فلسطين وبانتهاك الكيان الصهيوني لقرارات الأمم المتحدة وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أين حقوق الإنسان في ضرب إسرائيل بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط.

وفي العدوان على غزة ومحاصرتها وتشريد أطفالها؟ تصرفات الكيان الصهيوني تتناقض جملة وتفصيلاً مع حقوق الإنسان، فبأي حق تفرض الولايات المتحدة نفسها شرطياً على العالم؟ وبأي حق تصنف الدول وتضعها في خانة الإرهاب وعدم احترام حقوق الإنسان؟

أين هي حقوق الإنسان وحرية التعبير عندما تحكمت البنتاغون خلال حرب الخليج الثانية، في الأخبار والمعلومات وأصبحت قناة س. أن. أن هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة في العالم المسموح لها بتزويد البشرية جمعاء بما تراه خبراً أم لا؟ أين هو حق الاتصال وحق المعرفة وحق الإعلام؟

وهكذا إذن أصبح مبدأ حقوق الإنسان وسيلة في يد الدول القوية، للضغط وإدارة شؤون العالم وفق ما تمليه عليها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية. ونلاحظ هنا أنه حتى بعض المنظمات غير الحكومية التي تعنى بشؤون حقوق الإنسان، قد تم تسييسها وانحازت لدول ولمصالح ولأيديولوجيات معينة، على حساب خدمة مبدأ إنساني عالمي لا يعرف في الأساس حدوداً ولا جنسيات ولا لوناً ولا عرقاً.

كيف يكون مستقبل حقوق الإنسان في ظل عولمة لا تؤمن بخصوصية الشعوب ولا بالحدود، بل تعمل على استغلال أطفال الهند والنيبال وبنغلادش وسريلانكا؟ عولمة همها الوحيد سلطة المال والسياسة والقوة..

شركات متعددة الجنسية تسيطر على المال والأعمال والصناعات والتجارة الدولية، لا حدود لها ولا بلد، وتبتز أطفال العالم وفقراءه في وضح النهار من جهة، وتطالب من جهة أخرى بحقوق الإنسان! أليس من حق أطفال الدول الفقيرة العيش الكريم والشريف والتمدرس؟ وكيف لنا أن نتكلم عن حقوق الإنسان في العالم وهناك شعوب محرومة من حقها حتى في العيش؟

يبدو ببساطة أن العالم بحاجة لوقفة مع الذات ومع أخلاق الأنا والغير، لأن هذا هو التحدي الكبير الذي سيواجهه مستقبلاً. التحدي يكون أساساً في القيم الإنسانية والأخلاقية، فإذا سيطرت ثقافة انعدام الأخلاق وانعدام القيم على علاقات الشعوب والدول، فسيكون المصير صراعات وبؤر توتر وحروباً وأزمات.

 

Email