الحراك الاجتماعي الاقتصادي للغة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

اللغة وسيلة تواصل اجتماعي، فالمجتمع يتفاهم ويتناقش ويتفق ويختلف، وينشر المقالات والأخبار والإعلانات، ويعقد الاتفاقيات والعقود، ويتزوج ويطلق، ويشتكي ويتراضى، ويكتب أدبه وشعره، ويعبر عن مشاعره وحبه وبغضه ونجواه.. باللغة الوطنية. والمجتمع يدرّس أبناءه العلوم والآداب بهذه اللغة، وينشر علماؤه بحوثهم بهذه اللغة. فاللغة تـُستخدم في مجالات النشاط اليومي والمعرفي، وتبقى حاملة للخزين الثقافي والتاريخي للمجتمع، وتصبح عنوان هويته ودليل مستقبله.

بيدَ أن المجتمع يحتاج اللغات الأجنبية للتواصل مع الأمم الأخرى، ليدرس علومها وآدابها وينقل إليها علومه وآدابه ويفهمها وتفهمه. وفي خضم هذا التفاعل السريع الذي تعيشه الدول العربية مع العالم، نشهد تأثيرا واضحا على اللغة العربية باعتبارها وسيلة التواصل الاجتماعي في المجتمع العربي، في كل المجالات.

إلا أن العربية تختلف قليلا عن لغات العالم، فرغم أن لغات العالم تتصف بمستويين من الاستخدام اللغوي، الفصيح والعامي، والتباين الجغرافي بين اللهجات الإقليمية، لكن الفرق في تلك اللغات ليس شاسعا بين هذين المستويين، مثلما هو الحال في اللغة العربية.

العربية في المدارس لغة أدب ونحو (وليست لغة تطبيق لغوي)، ولا يبقى مع الطالب منها بعد إكماله التعليم الثانوي، إلا القليل الذي لا يُعين على كتابة تقرير رسمي سليم اللغة والإعراب. بل قد لا تكون العربية حاضرة في تعليم الكثير من الأولاد، لأنهم درسوا ويدرسون في مؤسسات لا تدرّس هذه اللغة. ويكمن البعد الاجتماعي الاقتصادي للمشكلة، في أن أفراد المجتمع يرون أن التعليم الجيد والناجح لأولادهم، يكون بتدريسهم اللغات الأجنبية للحصول على وظيفة مستقبلا.

 لقد تراجعت العربية في التدريس الجامعي للعلوم لصالح اللغات الأجنبية، لأسباب منها الصعوبة التي يجدها بعض الأساتذة في التدريس بها، ورأي بعضهم أنها لا تستطيع التعبير عن الأفكار العلمية المتقدمة. في الوقت نفسه تقدر الجامعات بحوث أساتذتها التي تنشر باللغات الأجنبية، على تلك التي تنشر باللغة العربية، وتلك التي تنشر في مجلات أكاديمية أجنبية على تلك التي تنشر في مجلات أكاديمية عربية.

وإذا ما نظرنا إلى شرائح الشباب في الجامعات والمدارس، نجد أن للعربية الفصيحة مكانة ثانوية في حياتهم، فهم يتحدثون العامية ويدرسون عربية تلقينية تتبخر بعد الامتحان النهائي. إن وسائل التواصل والمتعة للشباب في حياتنا المعاصرة، هي الوسائل السمعية البصرية التي يوفرها الحاسوب والإنترنت والهواتف الحديثة، وهم يستخدمون العامية المشوبة بمفردات أجنبية، أو اللغات الأجنبية فقط، للتواصل والتعبير عن أفكارهم.

تخضع العربية لعوامل التعرية والتآكل من جوانب مختلفة، ومن ضمنها القنوات والمجالات التي تـُستخدم فيها أساسا، ومن ذلك وسائل الإعلام. ولوسائل الإعلام أثر كبير على اللغة، فتأخذها من يدها وتركض بها في دهاليز الاستخدام اللغوي المعوج. وبينما تحاول وسائل الإعلام أن تقدم موادها بلغة رصينة، فإن الكثير من ذلك ركيك أسلوبيا، وغالبا ما يكون تعبيرا أجنبيا بحروف عربية.

إن أفراد المجتمع يتعلمون اللغة من وسائل الإعلام، ويستخدمون أسلوبها باعتباره صحيحا وفصيحا. فنحن نهضم اللغة ذهنيا، وتبقى المفردات كامنة في خزيننا اللغوي الذي تكون وسائل الإعلام أحد مصادره الرئيسة (فنحن نقرأها ونسمعها ونراها يوميا)، ثم بوعي أو دون وعي، نعيد استخدامها في تواصلنا وكتاباتنا. ومن الجدير بالذكر أن طلبة أقسام الإعلام والاتصال الجماهيري في كثير من الجامعات، لا يدرسون اللغة العربية ولا يتقنون نحوها ولا فنون الكتابة والأساليب فيها.

في بعض الدول العربية تـُستخدم العامية في بعض الصحف والنصوص الروائية، إذ يكتب صحفيون مقالاتهم باللهجة المحلية، ربما لجذب عدد أكبر من القراء. وينشر بعض دور النشر روايات باللهجة المحلية، ربما لبيع عدد أكبر من النسخ في سوق يتسم بعدم الاهتمام بالقراءة.

وهذه سابقة وتوجه يجعل جمهور القراء يبتعد عن الفصحى ولا يستسيغها في وقت لاحق، ويؤسس الشكل الكتابي للعامية، وهذا بحد ذاته سيجعل العامية لغة راسخة القواعد. كذلك بدأت شركات الإنتاج الفني وبعض القنوات التلفزيونية، بإنتاج أفلام ومسلسلات مترجمة صوتيا (مدبلجة) باللهجات العامية، في مجتمع عاش ونشأ على مشاهدتها مترجمة إلى الفصحى، بل إنه كان وما زال يترجم صوتيا بالفصحى.

كل هذه العوامل تجعل اللغة العربية بعيدة وتبتعد عن قلوب أغلب أفراد المجتمع وفكرهم، فهم يستخدمون اللغة المحكية المحلية في تعاملهم اليومي، ويستخدمون اللغات الأجنبية في مدارسهم وجامعاتهم، ويستخدمون إحداهما أو كلاهما في تواصلهم الرقمي، وإذا ما أمكنهم التعبير بالفصحى فهو ما يجترونه من وسائل الإعلام والذي تشوبه الركاكة.

إذا بدأ المجتمع يستخدم وسيلة أخرى للتواصل فستندثر اللغة، وفي أحسن الظروف فإنها ستتغير إلى لغة غريبة وبعيدة كل البعد عن أصلها.

 

Email