الحرب على غزة في الميزان التكتيكي

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتهت هذه المرة العملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، في وقت قصير نسبياً، على العكس من المرات السابقة التي كانت فيها الأمور تمتد لفترات أطول، دون تدخل حقيقي وفاعل من المجتمع الدولي، أو من قبل أي من الأطراف الفاعلة على الساحة الإقليمية. وبالطبع، فإن الإشارة السابقة أعلاه، تحمل في طياتها مضموناً سياسياً صارخاً، يلخص إلى حد كبير تضارب الرؤى والمواقف بالنسبة للمغامرة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضد القطاع، بين مختلف الأطراف المؤثرة واللاعبة.

فالإدارة الأمريكية، وفي ظل عهدها الجديد، لا تريد أن تفتتح الفترة الرئاسية الثانية من عهد الرئيس باراك أوباما، بعراكات ومغامرات قاسية في الشرق الأوسط، وهو الذي فشل طوال فترته الرئاسية الأولى، في إعادة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى سكة المفاوضات، كما فشل في ترجمة خطابيه عاليي النبرة من إسطنبول والقاهرة، واللذين وجههما في بدايات فترته الرئاسية الأولى إلى العالمين العربي والإسلامي.

كما أن العديد من الأطراف الإقليمية، ومنها مصر في ظل الرئيس الجديد محمد مرسي، لا تريد أيضاً أن ترى ما يسميه الإخوة الرسميون المصريون "عمق الأمن القومي المصري" يخترق على جبهة قطاع غزة الملتهبة والمشتعلة، ويدها قاصرة عن تقديم الدعم المؤثر للفلسطينيين في القطاع، بحكم الواقع المُعقّد حالياً داخل مصر والغليان السياسي فيها بين مختلف الأطراف، وبحكم الآليات والنواظم التي ما زالت إلى الآن تقيّد الدور المصري بالنسبة للموضوع الفلسطيني ومواضيع الصراع العربي الإسرائيلي.

وعليه، فإن حالة "ديناميكية" من الحراك السياسي الأمريكي الملهوف، رافقت وتلت العدوان الإسرائيلي على القطاع. وقد دفعت تلك الحالة بوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، للقدوم إلى المنطقة والإقامة في القاهرة من أجل ترتيب وقف سريع لإطلاق النار، وقد برز معها الدور التركي ودور العديد من الأطراف العربية.

وعليه لم يستَطع نتنياهو أن يستمر في العملية إلى أبعد مما وقع، كما أن مُختلف الأطراف الإقليمية لم يكن بمستطاعها سوى تكثيف الجهود هذه المرة وبسرعة، من أجل لململة الوضع هناك وإيقاف إطلاق النار، فانفجار الوضع في غزة سيحرج الجميع هذه المرة، وسيضعهم أمام أسئلة شعوبهم الصعبة، خاصة في بلدان "الربيع العربي".

أما على الضفة الإسرائيلية فقد خاب ظن تحالف نتنياهو ـ ليبرمان، فلم تعطهم مؤشرات الاستطلاعات التالية التي جرت بعد يوم من إيقاف العمليات العسكرية ضد قطاع غزة، ما كانا ينشدانه من نتائج عالية متوخاة داخل المجتمع الإسرائيلي، على أعتاب اقتراب الانتخابات التشريعية للكنيست التاسع عشر.

ومع ذلك فنحن الآن أمام شياطين قادمين لموقع القرار في إسرائيل، فكل المؤشرات تقول بأن قوى اليمين واليمين المتطرف باتت الآن تكتسح المجتمع الإسرائيلي، وأن سياسات المهادنة العربية القائمة على منطق الاستجداء والمناشدات، ساعدت على ذلك. فاليمين الصهيوني لا يَضعُف في حضوره إلا بالمواجهة العسكرية والسياسية العربية والفلسطينية الجدية، ولا ينمو إلا في مستنقعات الهزائم والتنازلات السياسية والعسكرية الفلسطينية والعربية.

وفي الجانب المتعلق بالحالة الفلسطينية، فتقديرات الموقف تشير إلى الوحدة الميدانية لكل القوى الفلسطينية وأجنحتها العسكرية الفدائية، لكن الوحدة السياسية المفقودة كانت وما زالت مغيبة إلى الآن، ولم يلحظ حتى هذه اللحظة نزوع فلسطيني فعلي للاستفادة مما جرى، من أجل مغادرة مربع الانقسام السياسي وفتح الطريق أمام استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية المفتقدة منذ سنوات.

فطريق إعادة بناء البيت الوطني الفلسطيني، وتحقيق الشراكة السياسية الحقيقية بين الجميع، كما كان الأمر في الشراكة القتالية وشراكة الدم في مواجهة العدوان الإسرائيلي، هذه الشراكة ما زال طريقها طويلا ومتعثرا على ما يبدو.

والأسباب في هذا المجال كثيرة، وهي في جوهرها ليست سوى مبررات على لسان من لا يريد أن يطلق الحالة الفلسطينية من عنانها، ومن لا يريد أن يفعّل أدوات المواجهة. فالطريق لإعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية ليس موصدا أو مغلقا، لكن مفتاحه يحتاج للقرار الشجاع من قبل عموم الأطراف الفاعلة في الساحة الفلسطينية، والتي تسطيع بإرادتها أن تقطع الطريق على أي "فيتو" مضاد للوحدة الوطنية، يضعه أي طرف إقليمي أو دولي في وجه الفلسطينيين.

أخيراً، وفي الميزان التكتيكي التقييمي لما جرى في قطاع غزة، نرى أن الشعب الفلسطيني ما زال قادراً، رغم كل المصاعب والالتواءات والتداخلات الإقليمية، على تقرير الوقائع على الأرض في نهاية المطاف، وفرملة أي اندفاع إسرائيلي وأي أطراف إقليمية تريد أن تذهب بالفلسطينيين وبحقوقهم الوطنية إلى مهب الريح والنسيان.

 

Email