حين يرتد السحر على صاحبه

ت + ت - الحجم الطبيعي

العدوان الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة يوم الرابع عشر من نوفمبر المنصرم واستمر ثمانية أيام، لم يكن مفاجئاً للفلسطينيين. فمن حيث المبدأ كان الفلسطينيون على قناعة راسخة، بأن حرب الرصاص المصبوب نهاية عام 2008، لن تكون الأخيرة، رغم أن ما بعدها كان محكوماً بتهدئة هشة أرادها الطرفان بدون اتفاق رسمي وعلني، ذلك أن إسرائيل ظلت بين الحين والآخر تبادر إلى خرقها.

العدوان الأخير، توقف بعد جهود دولية حثيثة، أوكلت لمصر القيام بدور الطرف الوسيط، الذي تمكن من التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وفصائل المقاومة، هو الأول من نوعه، حيث إن إسرائيل رفضت دائماً التعامل أو الاعتراف بفصائل المقاومة التي اعتبرت تل أبيب دائماً أنها جماعات إرهابية، واعتبرت بقرار رسمي معلن "قطاع غزة كياناً معاديا"ً.

إسرائيل التي تدير ظهرها منذ قيامها عام 1948، للقوانين والمواثيق والقرارات الدولية، وتتصرف بحماية ورعاية من الولايات المتحدة، كدولة فوق القانون، إسرائيل هذه لا يقيدها اتفاق تهدئة ترعاه مصر، ويحظى بدعم أطراف إقليمية ودولية بما في ذلك الولايات المتحدة.

وبالتالي واهم كل من يعتقد أو يركن إلى أن تدويل التهدئة هذه المرة، من شأنه أن يردع إسرائيل أو يمنعها من مواصلة عدوانها المرة تلو الأخرى.

والحقيقة أن إسرائيل تعمدت خرق التهدئة، منذ الساعات الأولى للموعد الذي تم الاتفاق على أن تدخل فيه حيز التنفيذ، إذ استمر الطيران الإسرائيلي في قصف العديد من المناطق حتى نصف ساعة بعد ساعة الصفر، وفي اليوم الذي يليه أطلق جنودها النار عبر الحدود وأصابوا عدداً من الفلسطينيين، وتكرر الخرق ذاته في اليوم التالي أيضاً، مما أدى إلى استشهاد مواطن وإصابة عشرة آخرين.

اليمين الإسرائيلي الذي بادر إلى العدوان الفاشل، واصل تهديداته بأنه في حال فوزه في الانتخابات التي ستجرى أواخر يناير المقبل، فإنه سيعود للعمل على تدمير البنية التحتية للمقاومة.

إن إسرائيل لن تسلم بالهزيمة التي لحقت بها خلال عدوانها الأخير، ويبدو أنها أصيبت بصدمة كبيرة، نظراً لفشل أجهزتها الاستخبارية في معرفة القدرات الحقيقية التي راكمتها فصائل المقاومة بصمت، منذ الحرب الإسرائيلية السابقة التي حملت اسم الرصاص المصبوب قبل أربع سنوات.

وفوجئت إسرائيل أيضاً بأنواع الأسلحة التي حصلت عليها الفصائل، والمدى الذي تصل إليه صواريخ الفلسطينيين، والتقنيات التي استخدموها ومكنتهم من مواصلة إطلاق الصواريخ بمعدلات عالية، رغم كثافة القصف الجوي والبحري والبري، ورغم الرقابة الجوية التي لم تتوقف لحظة طيلة أيام العدوان.

كان نتنياهو قد أعلن أن هدف عدوانه، هو حماية وتأمين سلامة نحو مليون مواطن إسرائيلي يعيشون في محيط سبعة كيلومترات من حدود قطاع غزة، فإذا بصواريخ المقاومة تفاجئه بتوسيع ردها بما يعرض نحو خمسة ملايين للخطر، مما أربك الحياة اليومية والسياسية للمجتمع الإسرائيلي، ووفر للمعارضة الفرصة للانقضاض بالنقد والتجريح لثلاثي القرار؛ نتنياهو، وليبرمان، وإيهود براك.

الجنرال شاؤول موفاز وزير الحرب السابق وزعيم حزب كاديما، لم ينتظر حتى تهدأ الحرب، فدعا إلى مظاهرات تطالب باستقالة ثلاثي الحرب، واعترف بالفم الملآن أن إسرائيل خسرت، وأن حماس ربحت في هذه الجولة.

وسنلاحظ كلما ابتعدنا بالزمن عن جولة العدوان الإسرائيلي الأخيرة، أن الجبهة الإسرائيلية الداخلية، التي تتوحد عندما تواجه إسرائيل خطراً خارجياً، ستنفجر في وجه نتنياهو وحكومته، الأمر الذي يدعو للاعتقاد بأن تحالف "ليكود ـ بيتنا"، الذي شن العدوان لكسب المزيد من الأصوات الانتخابية، لن يكون بمقدوره المحافظة على ما يحوز عليه من مقاعد في الكنيست الحالية، والتي تصل إلى اثنين وأربعين مقعداً.

ولكن هل يشكل الهدف الانتخابي الحزبي، الهدف الوحيد لهذا العدوان أم أن ثمة أهدافا أخرى، خاصة وأن ثلاثي الحرب (نتنياهو- ليبرمان- باراك) لم يعترف علنياً بهذا الهدف، لأنه ما كان ليستطيع تسويق عدوانه على مواطنيه، ولذلك فإنه اخترع هدفاً للعدوان، على اعتبار أنه يستهدف تدمير البنية العسكرية للمقاومة وتأمين سلامة المواطنين الإسرائيليين؟

أما عن الأهداف الأخرى للعدوان فيمكن استعراضها كالآتي:

أولاً؛ اختبار رد الفعل المصري أساساً والعربي بشكل عام، إزاء العدوانات الإسرائيلية على الفلسطينيين، خصوصاً بعد فوز الإخواني محمد مرسي بالرئاسة، وهو من الجماعة ذاتها التي تشكل حركة حماس فرعها الفلسطيني.

ثانياً؛ توظيف الضغط العسكري على غزة، لثني الرئيس محمود عباس عن مسعاه نحو الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من الشهر المنصرم، خاصة بعد أن فشلت تهديداتها وضغوطها المتزامنة مع ضغوط أميركية، في إقناع الرئيس الفلسطيني بالتوقف عن مسعاه والعدول عن قراره.

ثالثاً؛ اختبار القدرات العسكرية للمقاومة، والتعرف على أنواع الأسلحة الجديدة التي حصلت عليها.

رابعاً؛ استثمار الضغط العسكري المكثف، واتفاق التهدئة، لتعميق الانقسام الفلسطيني، ولفرض المزيد من الشروط والإجراءات، التي تعزز استقلالية القطاع وانفصاله عن الجغرافيا والسياسة الفلسطينية.

لقد كان واضحاً من تصريحات بعض الإسرائيليين، أنهم يتعاملون مع قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس، على أنه كيان منفصل، وأنهم بصدد التنصل من مسؤولياتهم القانونية والسياسية والأخلاقية والإنسانية كدولة احتلال، عن القطاع.

يبني الإسرائيليون منطقهم من كون إسرائيل انسحبت من قطاع غزة عام 2005، ولذلك فإنهم يستغربون دوافع فصائل المقاومة في التسلح، وكأن لسان حالهم يقول: لقد تركناكم وشأنكم فلماذا لا تتركونا وشأننا!

والنتيجة أن إسرائيل فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها المباشرة وغير المباشرة، خصوصاً وأنها لم تتمكن من تصعيد عدوانها إلى حرب برية شاملة، عارضها المجتمع الدولي لما قد تنطوي عليه من تداعيات خطيرة في المنطقة، ولأن مثل هذه الحرب تفتقر إلى الهدف الذي يستحق ما ينجم عنها من خسائر مادية وبشرية وسياسية، ذلك أن إسرائيل لا تريد العودة إلى القطاع الذي انسحبت منه، ولا تريد القضاء على سيطرة حماس، مما يؤدي إلى إنهاء الانقسام.

كانت التهدئة هي الخيار الوحيد أمام حكومة نتنياهو لكي يخرج من ورطته بأقل الخسائر، لكن هذا العدوان أظهر مدى تآكل قدرة الردع الإسرائيلية، ومدى فشل الأجهزة الاستخبارية، وفاقم بما تكبدته إسرائيل من خسائر، أزمتها الاقتصادية الاجتماعية، الأمر الذي ستظهر آثاره واضحة في نتائج الانتخابات القريبة المقبلة.

 

Email