غزة ورياح الربيع العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لخص وزير الداخلية الإسرائيلي إيلي يشاي، الهجوم العدواني الإسرائيلي الكاسح على قطاع غزة بقوله: «إن الهدف من العملية هو رد غزة إلى عهد القرون الوسطى». ورغم هذه المبالغة اللفظية إلا أن المغزى لا يخفى، ألا وهو أن إسرائيل تريد أن تثبت للعرب عملياً، أن الخطوات العربية لكسر الحصار الإسرائيلي على القطاع وأهله وما يتبع ذلك من تنفيذ مشاريع لإعادة التعمير هناك، لن يكلل بنجاح.

لكن يبدو أن قادة إسرائيل لا يدركون تماماً أن الظرف السياسي العام في شتى أنحاء العالم العربي يتغير، من خلال ما يطلق عليه الربيع العربي. إن زيارة وفد من وزراء الخارجية العرب إلى قطاع غزة بينما تصب الطائرات والصواريخ الإسرائيلية الحمم بطول القطاع وعرضه، للتعبير عن تضامن عربي لشعوب الأمة العربية مع الشعب الفلسطيني في غزة، ربما تكون مجرد مشهد رمزي لا أكثر، لكنه رمز قوي فريد لا سابق له.

هذه الخطوة الرمزية هي الحلقة الأحدث في سلسلة من التطورات العربية، التي تعكس روحاً عربية جديدة في تحدي الحصار الإسرائيلي.

انطلقت البداية الحقيقية من انتصار ثورة 25 يناير المصرية، عقب الإطاحة بنظام حسني مبارك المتحالف مع إسرائيل. فقد كان ذلك إيذاناً بكسر العزلة الاقتصادية والسياسية المفروضة على القطاع، بفتح بوابة معبر رفح على مصراعيها. وهكذا ومع تدفق شحنات الأغذية والأدوية.

كان تدفق مواد البناء وفي مقدمتها الإسمنت، ودخول شحنات الغاز اللازم لتوليد الإمدادات الكهربائية، ومن هنا بدأ تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار. وعلى خط موازٍ دخلت شحنات أسلحة وأموال نقدية، لدعم حكومة «حماس».

بطبيعة الحال ظل القادة الإسرائيليون يرقبون هذه التطورات بقلق لا مزيد عليه، وهم يتساءلون: إلى أين تتجه غزة؟ وهل من الحكمة الاكتفاء بالسكوت علماً بأن تصاعد حركة التعمير في القطاع يعني ازدياد قوة المقاومة الشعبية المسلحة؟ تعبيراً عن هذا القلق المتعاظم، أبرم اليمين الإسرائيلي بزعامة نتانياهو تحالفاً سلطوياً مع اليمين المتطرف بقيادة ليبرمان.

ومن هنا كان القرار الإسرائيلي بشن عملية الهجوم الكاسح، لاستباق الغد الغزاوي قبل أن يتبلور تماماً، ولإثبات أن إسرائيل قادرة على إحباط الجهد العربي لتحدي حالة الحصار الإسرائيلي. لا ندري تماماً ما سوف تنتهي إليه العملية الإسرائيلية العدوانية، وما إذا كانت سوف تحقق الهدف الأكبر من ورائها، وهو ردع التضامن العربي مع أهل غزة.. لكن السؤال الأكبر هو: هل يصمد الدعم العربي لأهل القطاع؟ وهل تتطور متغيرات الربيع العربي؟

من خلال بياناتها عبر الجامعة العربية، لا يبدو أن الحكومات العربية إجمالاً تعتزم اتخاذ خطوات دراماتيكية وراديكالية، إلا أنه يلاحظ أن اللغة تغيرت نسبياً. ففي ثنايا البيانات هناك دعوة إلى «الالتزام بوقف كل أشكال التطبيع مع إسرائيل».

وهناك قرار جماعي على مستوى وزراء الخارجية بإعادة تقييم الموقف العربي إزاء مجريات عملية السلام المعطلة من مختلف جوانبها وأبعادها، بما في ذلك جدوى استمرار الالتزام العربي بطرح مبادرة السلام العربية كخيار استراتيجي. هذه لهجة جديدة رغم تواضعها.

وما كان لها أن تطرأ على الأفق العربي الرسمي، لولا أن هذا الأفق قد ازدحم خلال العامين الأخيرين بالزخم التقدمي الراديكالي على الصعيد الشعبي، الذي أفرزته إحداثيات الربيع الثوري العربي. إن علينا أن نعي أن العالم العربي دخل الآن مرحلة تأثير الشارع على أجندة الحكومات في مجال التحرك السياسي الخارجي، وهو تأثير قابل كما يبدو للتصاعد خلال السنوات القلائل القادمة، إن لم يكن الشهور.

تأسيساً على ذلك، لن تجرؤ الحكومات العربية على التراجع عن تحديها العملي للحصار المفروض على غزة.. بل إن هذا التحدي قد يتسع نطاقه على صعيد الخطوات العملية، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تشجيع دول ومنظمات غير عربية على المشاركة، كتركيا والجماعات الأوروبية الراديكالية.

وقد شهد العالم مثل هذه المبادرات، مثل قافلة الإغاثة التي قادها النائب البريطاني جورج غالوي والسفينتين التركية والأوروبية اللتين قصدتا ساحل غزة، في حركة قوية الرمزية لتحدي إسرائيل. بالطبع ليس الهدف من مثل هذه الحملات الدخول في صدام عسكري مع القوات الإسرائيلية.

ومع ذلك فإنها حملات ناجحة من حيث لفت الانتباه الشعبي على الصعيد العالمي. وبصورة عامة فإن المعادلة العربية ـ الإسرائيلية المرتقبة، هي أنه كلما تصاعدت الهجمة العدوانية العسكرية على أهل قطاع غزة، ازداد الشارع العربي غضباً.. وكلما تصاعد هذا الغضب، اشتد الضغط الشعبي على الحكومات العربية لدفعها إلى المزيد من التحدي في وجه إسرائيل. وعند نقطة مستقبلية ما قد يجبر الضغط كلاً من مصر والأردن، على إعادة النظر في معاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة.

ولكن بعد هذا كله أو قبله، ينبغي أن نتساءل ماذا سيكون عليه الموقف العربي الرسمي تجاه الولايات المتحدة وشراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل؟

لقد رأينا في الأيام القلائل السابقة، الرئيس أوباما يصف الهجوم الإسرائيلي على غزة بأنه «دفاع عن النفس». والسؤال الذي يطرحه الشارع العربي الآن هو: إلى متى يبقى القادة العرب أسرى خرافة اسمها «الحياد» الأميركي؟

إنه السؤال الأكبر الذي سوف تفرضه رياح الربيع العربي، على دول الجامعة العربية في وقت ليس ببعيد.

 

Email