تكريس الانقسام الفلسطيني هدف إسرائيل الأساسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

للعدوان الإسرائيلي الجاري على غزة أكثر من هدف، مرحلي وبعيد المدى. فإذا كان ضرب بنية المقاومة العسكرية لحركة "حماس" والفصائل الأخرى المقاتلة هدفاً مباشراً، فإن ضرب المساعي الفلسطينية الرامية للحصول على عضوية الأمم المتحدة والتشويش عليها، هدف أساسي لهذا العدوان أيضاً.

الأهداف الانتخابية هناك أيضا، وهذه لعبة أدمن عليها الساسة الإسرائيليون، خصوصا هذا الأهوج بنيامين نتنياهو. إحراج مصر والرئيس محمد مرسي قد يكون هدفاً أيضا، لكنني أراه ثانوياً مثل الأعراض الجانبية لهذا العدوان.

أما على المدى البعيد، فإن العدوان يستهدف تعميق الانقسام الفلسطيني، عبر ترسيخ حالة الاحتراب النفسي لدى الفلسطينيين عبر التفرد بغزة وأهلها، وعدم ضرب الضفة الغربية الخاضعة لحكم السلطة الفلسطينية، وإظهارها بمظهر المتفرج على مأساة أهل القطاع. من وجهة نظري هذا هو الهدف الأهم لهذا العدوان؛ تكريس الانقسام الفلسطيني.

فعلى غرار ما جرى في الحملات العسكرية الأخيرة منذ العام 2007، تعمل إسرائيل على ترسيخ هذه الحالة في أوساط الفلسطينيين، لتكريس حالة الاحتراب وخلق قطيعة نفسية بين فلسطينيي غزة وفلسطينيي الضفة الغربية.

ففي حرب 2008-2009، كنا قد تابعنا كيف أن جزءاً غير قليل من مشاعر الغضب في قطاع غزة وخارجه أيضا، اتجهت نحو السلطة الفلسطينية وتكرست معها حالة الانقسام التي أسهم فيها وقتذاك - أيضا ارتباك السلطة وترددها في إعلان مواقف قوية وصريحة حيال الحرب منذ البداية.

يتعين على السلطة الفلسطينية الآن أن تواصل حملتها السياسية ضد العدوان بزخم وقوة، وأن تحول الضفة الغربية إلى ساحة معركة للضغط على إسرائيل وتتفادى ما جرى في حرب 2008-2009.

المشكلة الحقيقية هنا في قراءة الأهداف الإسرائيلية وفهم دوافع تحركات قادة إسرائيل، هي أن بوصلة القراءة أصبحت مشوشة للغاية، تحت سطوة واستحواذ الصراعات المفتوحة في البلدان العربية، بدءاً من سوريا ومرورا بالخليج وصولا إلى المغرب العربي.

ففي مصر ستتم قراءة العدوان الإسرائيلي من واقع تأثيره على مصر تحديداً، والمؤسف أن تداعياته ستوظف في الصراع السياسي الداخلي ما بين مؤيدي ومعارضي الرئيس محمد مرسي والإخوان المسلمين، وللأسف بطريقة غير بناءة غالباً ومن باب المكايدات السياسية.

وفي دول عربية أخرى، ستتم قراءة العدوان بمنظار آخر هو مدى حضور إيران فيه، وتحديداً مدى دعمها المباشر أو غير المباشر لحركة المقاومة الإسلامية "حماس".

ولن يكون الوضع في سوريا بعيداً عن التحليل، مع تساؤلات بدأت تظهر من البعض عما إذا كان العدوان نوعاً من تخفيف العبء على النظام السوري وصرف الأنظار عما يجري في سوريا، أو حتى خلطاً للأوراق.

لكن ما قد يبدو تحليلاً طبيعياً لواقع قائم، قد يباعد بين الكثيرين وبين الفهم الحقيقي لدوافع هذا العدوان وأهدافه الآنية والمستقبلية. ولا يمكن استبعاد هدف مثل إذكاء الصراع العربي الإيراني، الذي باتت له تقاليده وسيماته الجاهزة.

سيبقى الانقسام الفلسطيني ـ من وجهة نظري ـ هو أهم مكسب تحقق لإسرائيل، التي عملت جاهدة لإنجازه وتعمل الآن لتكريسه بهذا العدوان. ويكفي لفهم الأهمية التي يمثلها هذا الهدف للإسرائيليين، استقراء نتائج هذا الانقسام منذ العام 2007 وحتى اليوم.

فبدلا من مواجهة جبهة فلسطينية متحدة ومنسجمة سياسيا وعسكرياً تحت سلطة واحدة، فإن الإسرائيليين يبدون مرتاحين للغاية وهم يتعاملون مع سلطة فلسطينية في رام الله وأخرى في غزة.

حرب سياسية ضد رام الله وحرب عسكرية ضد غزة، فمن الوهم التصور أن الحرب قد توقفت ضد السلطة الفلسطينية في رام الله. فالمعركة السياسية التي تخوضها السلطة، لا تقل أهمية وخطورة من وجهة نظر الإسرائيليين عن المقاومة في غزة.

لكن هدفاً رئيسياً للعدوان على غزة هذه المرة، ليس ضرب المقاومة في غزة فقط، بل إحباط المعركة السياسية التي تخوضها السلطة الفلسطينية نحو كسب اعتراف دولي بدولة فلسطينية، حتى وإن كانت غير كاملة العضوية.

ينبغي عدم التهوين من قيمة وأهمية هذه المعركة السياسية، بدافع من ميراث الهجاء فقط. فلقد أظهر الإسرائيليون من علامات الرفض والغضب لهذا التوجه، الشيء الكثير الذي يكفي لكي نفهم ما تمثله هذه المعركة السياسية من خطر عليهم.

وفي المقابل لا ينبغي التهوين أيضا من خيار المقاومة، فالثورات ومعارك التحرر الوطني تتطلب دوماً، خصوصا في صراع مثل الصراع العربي الإسرائيلي، قدراً ولو يسيرا من القوة لإحداث توازن رعب سيبقى دوما يميل لصالح المحتل. رغم هذا يتعين التمسك بخيار المقاومة ودعمه، أقله للدفاع عن الشعب والأرض.

ومن وجهة نظري، فإن إحباط الأهداف الإسرائيلية والتصدي لها، يبدأ أولا بوعي خطورة الانقسام الفلسطيني وإدراك قيمته العظمى للإسرائيليين، والعمل على منع تكريس تبعاته النفسية والسياسية. أولى الخطوات هي التوقف فوراً عن ترديد "وهم ثنائية "المقاومة/ الاستسلام"، والنفخ فيها تحت تأثير هذا العدوان وفظاعاته.

فالنضال من أجل تحرير الأرض وبناء الدولة، يحتاج إلى كل أشكال المعارك السياسية والعسكرية. وترديد هذه الثنائية وترسيخها، لا يفعل سوى تحقيق الهدف الإسرائيلي الأسمى بتكريس حالة الانقسام الفلسطيني، نفسيا وواقعيا وسياسياً.

هناك هدف استراتيجي واحد لا غير للإسرائيليين عملوا جهدهم منذ العام 1994 وحتى اليوم لتحقيقه؛ منع قيام دولة فلسطينية أيا كان الذي يحكمها، سواء ياسر عرفات أو محمود عباس أو الشيخ أحمد ياسين أو خالد مشعل أو أي فلسطيني آخر. الهدف هو منع قيام الدولة وضرب كل أنويتها وأسسها ومؤسساتها وبنيتها التحتية، والانقسام الفلسطيني هو أول وأهم الأسلحة لتحقيق هذا الهدف وأكثرها فعالية.

والمراجعة الدقيقة والمتأملة لكل ما جرى منذ العام 1994 وحتى اليوم، ستفصح بجلاء عن أن إشعال الاقتتال الفلسطيني وإذكاءه دوماً، والحرب الاقتصادية والمعيشية على الفلسطينيين، والتهرب من استحقاق المفاوضات، ليست سوى سياسات تهدف إلى منع قيام دولة فلسطينية؛ دولة تحتاج إلى المقاتلين مثلما تحتاج لكل الكوادر البشرية الأخرى والمؤسسات والبنية التحتية.

هذه أولى وأهم خطوات الرد على هذا العدوان الإسرائيلي، وعلى السياسة الإسرائيلية كاملة، بكل أهدافها الآنية والبعيدة المدى.

 

Email