نصف قرن على الدستور الكويتي

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما أبين لطلبتي أهمية دستور الكويت، الذي نحتفل هذه الأيام بمرور خمسين عاماً على وضعه قيد العمل، بمثال حي يلقى صدى طيباً عندهم. أقول لهم: ربما الكثير منكم لم يكن الآن على مقاعد الدرس، لولا هذا الدستور والرجال المستنيرون الذين سطروا مواده.

وللعلم، فإن معظم من هم أمامي في قاعة المحاضرة، عادة ما يكونون من الطالبات المنتميات إلى ما نسميه في الكويت بالمناطق الخارجية، أي تلك المناطق التي كانت قديماً خارج أسوار الكويت، وبالتالي تأخر تأثرها بنهضة الكويت التي ابتدأت بعصر النفط في خمسينات القرن الماضي، حيث تمتعت لاحقاً، بالخدمات الصحية والتعليمية والبلدية وغيرها.

أنبههم إلى نص المادة 40 التي تقول: "التعليم حق للكويتيين تكفله الدولة.. والتعلم إلزامي مجاني في مراحله الأولى.." بالطبع، لا يثير ذلك حفيظتهم، ذلك أنهم قد أخذوا مجانية التعليم بداهة، فهم قد درسوا جميع المراحل دون أن يدفعوا فلساً واحداً، وها هم في الجامعة يقومون بتسجيل مواد دون أن يدفعوا عليها رسوماً، بعد أن ألغت الجامعة تلك الرسوم البسيطة التي كانت مفروضة عليهم.

وهم ينسحبون من تلك المواد إن شاؤوا بعد ثلاثة أسابيع، دون أن يتحملوا أي غرامة على ذلك! ثم هم أضحوا يقبضون من الدولة 200 دينار شهرياً (وللطالب المتزوج 350 ديناراً) لكونهم طلبة جامعيين وحسب، يستوي في ذلك من كان "كسولاً" أو "مُجِداً" في دراسته!

غير أنني أبين لهم أن مجانية التعليم وإلزاميته، هي مكسب عظيم حصل عليه الشعب الكويتي في العام 1962، إذ كان التعليم في النصف الأول من القرن العشرين تعليماً يكلف صاحبه الكثير من المال، ولذلك ظل المتعلمون في غالبهم الأعم من أبناء الطبقة التجارية الذين كانوا قادرين على تحمل نفقاته. أما بقية أفراد الشعب فكانوا يكدحون ليل نهار، في البحر والبر، ليوفروا لقمة العيش الكريم. وحينما تبنت الدولة التعليم بعد ظهور النفط، تردد الكثيرون في إرسال أبنائهم إلى المدارس، وخاصة بناتهم، وذلك تمسكاً بالتقاليد القديمة.

وهذا ما أدركه الرعيل الأول من المتنورين الذين قدر لهم أن يكونوا في المجلس التأسيسي المنتخب، وخاصة في لجنته الخماسية التي وضعت مسودة الدستور وناقشته، قبل أن تُعرض على النقاش العام في المجلس. وكان السيد يعقوب الحميضي (أطال الله في عمره) ممثلاً لهؤلاء، وقد رأى أن يكون التعليم مجانياً، ولم تكن ثمة مشكلة في ذلك، فالدولة كانت آنئذ من أغنى دول العالم وذلك بفضل تدفق الذهب الأسود.

لكنه إلى جانب مجانية التعليم، رأى أن يكون أيضاً إلزامياً إلى نهاية مرحلة الثانوية العامة، أسوة بالدول المتقدمة. وهنا ثارت ثائرة بعض أعضاء اللجنة من الأعضاء التقليديين.

ـ كما روى لي ذلك الدكتور أحمد الخطيب، عضو المجلس التأسيسي، أطال الله عمره ـ فهؤلاء احتجوا بأنه ليس من العدل والإنصاف أن تلزم الدول أولياء الأمور بتدريس أبنائهم، إذ يعتبر ذلك تعدياً على الحرية الشخصية، وخاصة إجبارهم على إدخال بناتهم إلى المدرسة. ثم إن استمرار البنات في بقائهن على مقاعد الدرس إلى نهاية المرحلة الثانوية، سيعني تأخر زواجهن، وهو ما كان يتم في تلك الأيام عند سن البلوغ!

وتوصل الطرفان إلى حل وسط (وهذه هي روح الديمقراطية)، واعتبروا أن إلزامية التعليم في مراحله الأولى (الابتدائية والمتوسطة). وصدر قانون فيما بعد (1965) ينظم إلزامية التعليم تلك، ويفرض غرامات مالية وبالسجن، على أولياء الأمور الذين يتخلفون في تسجيل أبنائهم وبناتهم في المدارس حينما يصلون إلى سن دخول المدرسة، وهو من الخامسة والنصف إلى السادسة، وأخذت أسماء هؤلاء الأبناء تظهر في "الجريدة الرسمية" حال بلوغهم تلك السن.

واختتم حديثي مع طلبتي قائلاً: ومن حسن الطالع أن القانون طبق تطبيقاً صارماً، وأخذ "جيب الشرطة الأسود" (حيث كانت شرطة الكويت تستخدم سيارات الدفع الرباعي من علامة جيب)، يدور على أولياء الأمور المتخلفين لاقتيادهم إلى المخافر. وأضيف: لكم أن تتخيلوا الكويت تلك الأيام، ورجال شرطتها يقومون بواجبهم هذا، لقد كان وسط السالمية (منطقة تجارية راقية الآن) تملؤه العشيش (الأكواخ).

بهذه الروح تجب المحافظة على الدستور وتطبيقه، في ذكرى احتفالنا بمرور نصف قرن على إقراره. أما المسائل الإجرائية فهي وليدة ظروفها، ولا تستوجب كل هذا الخلاف والشقاق الذي نراه ماثلاً أمامنا هذه الأيام.

 

Email