ثورة المعلومات وتراجع الحريات الإعلامية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تتوفر لوسائل الإعلام والاتصال شروط ملائمة لعملها وتقدمها، في أي مرحلة من مراحل التاريخ كما توفر لها في العقود الثلاثة الأخيرة، سواء ما يتعلق بتطور الأجهزة والأقمار الصناعية والبث الفضائي والشبكة العنكبوتية (الانترنت) والاتصال الفوري، أم بإمكانية معرفة ما يجري في العالم في اللحظة نفسها وتوصيل ما يريد المرسل إلى المتلقي حال وقوعه.

وبالتالي أُعطيت وسائل الإعلام والاتصال إمكانيات لم تعط لغيرها، مما أتاح لها أن تكون أكثر تأثيراً في تشكيل وعي المتلقي، والتأثير في حياته وأنماط سلوكه، والمساهمة في رسم حاضره ومستقبله.

ولذلك تولت وسائل الإعلام والاتصال بنجاح تحريض الأفراد والشعوب على معرفة حقوقهم والمطالبة بها، والاطلاع على تجارب الآخرين، وتطوير الحياة اليومية للناس، والاستفادة من التقدم الإنساني. حتى غدت وسائل الإعلام والاتصال هذه وكأنها هي العامل الحاسم في توجيه حراك المجتمع.

وقد تغيرت، بسبب هذا، الثوابت والمفاهيم والقيم التي كانت سائدة في المجتمعات الإنسانية طوال القرون الثلاثة الماضية عما كانت عليه قبل تفجر الاتصال، حيث كان الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية، والصراع الطبقي، وتطور البنية التحتية هي العوامل الحاسمة في تشكيل الوعي، وهذا (أي دور الاقتصاد والصراع الطبقي) ما استفاض في شرحه فلاسفة عصر النهضة وفلاسفة العصور اللاحقة، المثاليون منهم والماديون.

احتل الإعلام أهمية كبيرة نسبياً بدءاً من القرن السادس عشر، أي منذ اكتشاف الطباعة، وصولاً إلى القرن العشرين حيث انتشر التلفزيون والإذاعة وبعض وسائل الإعلام الأخرى. ولكن تطور وسائل الإعلام وأساليب عملها بعد تفجر الاتصال وثورة المعلوماتية كان أمراً مختلفاً دون شك، لأنه حقق قفزات استثنائية في تشكيل الوعي وتحفيز الحراك الاجتماعي.

كانت شكاوى الإعلاميين في السابق تتعلق بضيق هامش الحريات باعتبارهم لا يستطيعون التعبير عما يريدون بحرية كاملة، وقد ناضل ناشطو مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والمثقفون والصحافيون والأفراد طويلاً.

حتى استطاعوا إلزام الدول بإقرار حق التعبير وحرية تداول المعلومات وإدراجها في المواثيق الدولية وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهدين الدوليين (1966)، ومع ذلك كانت السلطات السياسية وأحياناً السلطات الاجتماعية وقيمها والثقافات السائدة، تضيّق على حرية التعبير وحق الاتصال وتداول المعلومات.

ومع ذلك أدت الحقوق الممنوحة في مجال الإعلام والحريات إلى نتائج هامة جداً في تغيير بنية المجتمعات الإنسانية كلها، لكن الشكوى بقيت قائمة ومستمرة سواء من قبل الإعلاميين أم من قبل غيرهم.

بعد تطور التقنية، وتحقق سهولة الحصول على المعلومات وتداولها، وازدياد تأثير الإعلام في مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، اعتقد كثيرون أن حق التعبير وتداول المعلومات وحرية الإعلام بشكل عام ستتسع، انسجاماً مع تطور وسائل الاتصال وأساليب عملها.

إلا أن الواقع كان غير ذلك، فقد تراجع حياد السياسات الإعلامية نسبياً، وأصبحت وسيلة الإعلام، في الغالب الأعم، تعبر عن رأي مالكها، أو ممولها بشكل مباشر أو غير مباشر، على حساب الموضوعية والمهنية. (وأصبح الإعلام ملتزماً) حتى ندر وجود وسائل إعلام حيادية أو شبه حيادية.

في النهاية تراجع حق التعبير، وحرية تداول المعلومات، لتتلاءم مع مصالح مالكي وسيلة الإعلام أو المؤثرين فيها. وكادت وسائل الإعلام أن تكون، في مجال الرأي، صوت سيدها، متجاهلة مصالح المجتمع والموضوعية والحق والعدل.

وهكذا بدلاً من أن يتسع هامش الحريات الإعلامية تراجعت هذه الحريات، وبدلاً من أن يكون حق الحصول على المعلومة مطلقاً اقتصر استخدامه على معلومات بعينها، باستثناء المعلومات غير السياسية التي لا تحمل رأياً أو تعبر عن رأي.

لعلها مفارقة في أن الحريات الإعلامية كانت قبل تفجر الاتصال وثورة المعلوماتية أرحب مما هي عليه الآن، مع أنه كان من المفروض أن التقدم العلمي والتقاني، وانتشار المفاهيم المعاصرة، وتغير الأولويات في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تؤدي إلى مزيد من الحريات الإعلامية ومزيد من الموضوعية في عمل وسائل الاتصال والإعلام، ولكن الذي حصل كان عكس ذلك.

ولعل الأمر هنا يشبه الحال مع اقتصاد السوق، الذي كان من المفروض أن يجلب الخير للإنسانية، لكنه في حيز التطبيق الواقعي وضع السوق في خدمة الأثرياء.

ومع ذلك، وفي كل الحالات، لاينبغي تجاهل الدور الهام والاستثنائي الذي لعبته وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة في تطوير الوعي، وتطور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جميع مجتمعات العالم، وهانحن نشهد تأثيرها غير العادي في الانتفاضات العربية التي حدثت خلال العامين الماضيين.

فمن الصعب إنكار هذا الدور أو تجاهله، ولكن المشكلة أن كل وسيلة إعلام واتصال تمارس مهماتها في إطار الحرية الممنوحة لها من المالك والمعلن سلباً وإيجاباً، أي هجوماً أو دعماً.

مما أدى إلى تداخل في الأحداث، والتشويش على وعي الناس، وعدم دقة في توصيف الحال، وصار الإعلام طرفاً في الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل وحتى (الأيديولوجية)، إعلاماً شبه رسمي، فإعلام السلطة يمجد منجزاتها غير الموجودة.

والإعلام الآخر يؤيد أو يهاجم دون موضوعية أحياناً مع تجاهله للأصول المهنية والمسؤوليات التاريخية.

وبقي وعي الناس نهباً لإعلام غير حيادي، وهذه مشكلة كبرى وقعت فيها وسائل الإعلام والاتصال الحالية دون أن تستطيع الخروج منها، لقد تقدمت التقنية وثورة المعلومات، وتراجعت الحريات الإعلامية، وكان من المفروض أن يكون التطور متوازيًا.

 

Email