الخرطوم وجوبا.. اتفاق من دون وفاق

ت + ت - الحجم الطبيعي

الرئيس السوداني عمر البشير شكَّل في الأسبوع الماضي لجنة على أعلى مستوى، لتتولى متابعة تنفيذ الاتفاق الأمني والتعاوني بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، الذي أبرمه الجانبان مؤخراً عقب جولة تفاوضية جادة جرت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وإذا عهد الرئيس البشير برئاسة اللجنة إلى شخصه، فإن من المؤكد أن يحذو رئيس الجمهورية الجنوبية حذو الرئيس السوداني بتشكيل لجنة على مستوى مماثل.

هكذا تبدو لعين الرائي صورة تبعث على التفاؤل، لكن هل يصمد هذا الانطباع على الصعيد التطبيقي؟ تدشين المسار التطبيقي يبدو وكأنه يعكس جدية على الجانبين؛ فحكومة جمهورية الجنوب شرعت بالفعل في عملية استئناف ضخ النفط من الحقول الجنوبية إلى الشمال، عبر خط الأنابيب الممتد من هذه الحقول منطلقاً على الأراضي الشمالية، وصولاً إلى ميناء بورتسودان ومن ثم إلى الأسواق العالمية.

وذلك وفقاً لرسوم النقل التي ينبغي أن تحصل عليها حكومة السودان كما ينص الاتفاق. معدل الضخ النفطي يبلغ 350 ألف برميل يومياً، لكن لأسباب فنية (تتعلق بإعادة صيانة خط الأنابيب) فإن المعدل لن يزيد على 180 ألف برميل يومياً لمدى عام ونصف العام، إلى أن يعود الضخ إلى المعدل الطبيعي. وعلى الجانب الآخر، فتحت الحكومة السودانية الحدود بين الدولتين لاستئناف التبادل التجاري. مع ذلك تتبقى هناك ثلاثة عوائق رئيسية على الصعيد التطبيقي، هي كما يلي:

أولا؛ صعوبة تنفيذ المسائل التي يشملها الاتفاق.

ثانيا؛ صعوبة التوصل إلى اتفاقات مرضية للطرفين بشأن القضايا المعلقة، التي أجلت لجولة تفاوضية لاحقة لم يُحدد لها موعد بعد.

ثالثا؛ بوادر حركة تمرد مسلح ذات طابع قبلي داخل الجمهورية الجنوبية ضد السلطة، مما قد يضطر حكومة جوبا إلى إعطاء أسبقية لمعالجة الوضع الأمني الداخلي على حساب العلاقة مع جمهورية الشمال، وبالتالي تعطيل تنفيذ اتفاق أديس أبابا.

في مقدمة المسائل التي شملها الاتفاق، إقامة منطقة أمنية منزوعة السلاح على الحدود المشتركة، بعرض عشرة كيلومترات على كلا الجانبين. ووجه الصعوبة التنفيذية هنا هو، أولا: أن اتفاق أديس أبابا لا يشمل ترسيم الخط الحدودي الدولي الذي ينبغي أن يكون فاصلاً بين الدولتين..

وثانيا: أن طول الخط الحدودي يبلغ في كل الأحوال أكثر من ألفي كيلومتر، مما يجعل إقامة المنطقة منزوعة السلاح على كلا الجانبين وعلى طول الخط الحدودي أمراً شبه مستحيل عملياً. وتدخل ضمن هذه المعضلة قضية مصير منطقة أبيي: هل هي تابعة للشمال أم للجنوب؟

وهي ليست قضية أرض بقدر ما هي المصير المشترك لقبيلتين: قبيلة المسيرية الشمالية وقبيلة الدينكا الجنوبية. تضاف إلى المسائل الصعبة أيضاً مشكلة الديون الخارجية التي تبلغ عشرات المليارات من الدولارات..

ومن يتولى العبء الضخم الذي يتمثل في مواصلة سدادها. هذه المديونية الكبرى ناشئة عن قروض حصل عليها السودان عندما كان دولة موحدة ـ أي قبل انفصال الجنوب في يوليو 2011 ـ ظلت الحكومة المركزية توالي سدادها مع فوائدها الباهظة. والمشكلة في هذا الصدد، هي أن الدولة الجنوبية المستقلة تتملص من مسؤوليتها رافضة المشاركة في عملية السداد.

من هذا السرد الموجز، يتجلى أن المسائل المعلقة أشد صعوبة من المسائل التي شملها الاتفاق. وحتى المسائل المتفق عليها في أديس أبابا، ليست سهلة التطبيق على ما يبدو. مع ذلك قد يكون هناك سبب لتفاؤل حذر، وهو تفاؤل مبني على احتمال أن يكون تشدد الطرفين ـ سواء على مستوى تنفيذ مفردات الاتفاق أو مستوى القضايا المعلقة ـ مجرد موقف تفاوضي تكتيكي، قابل للتعديل في مرحلة تفاوضية لاحقة.

لكن حتى هذا التفاؤل الحذر قد لا يكون وارداً إزاء تطور أمني خطير في الجمهورية الجنوبية، يتمثل في حركة تمرد مسلح ذات طابع قبلي.

وقد يؤدي إلى تغيير الأسبقيات الأمنية للحكومة. إن السلطة الحاكمة في جمهورية جنوب السودان تتكون من نخبة قبيلة الدينكا التي تمثلها (الحركة الشعبية)، وهذا الاحتكار السلطوي الدينكاوي أدى إلى تذمر واسع النطاق من نخب القبائل الأخرى، ما لبث أن تحول إلى ميليشيات مسلحة تستهدف السلطة الدينكاوية.

ووفقاً لكافة الشواهد الظاهرة، فإن الوضع الأمني الراهن قد يتطور إلى مستوى حرب أهلية، الأمر الذي قد يضطر حكومة "الحركة الشعبية" إلى إعطاء الأسبقية العليا للتعامل مع الوضع الداخلي على حساب العلاقات الخارجية، بما في ذلك العلاقة مع جمهورية السودان في الشمال.

 

Email