مغزى السادس من نوفمبر

ت + ت - الحجم الطبيعي

السادس من نوفمبر، هذا العام، هو يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تهم كل العالم، ويكذب اليوم من يدّعي أن هذه الانتخابات شأن يخص الداخل الأميركي.

 فالولايات المتحدة ليست دولة للداخل الأميركي فقط، بل إنها قوة كبرى على المستويات المالية والاقتصادية والعسكرية، ولهذا السبب بالذات لا تستطيع المؤسسة الدولية ممثلة بالأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، مباشرة أي عمل جدِّي دون موافقة الولايات المتحدة، كما أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقية التجارة والتعرفة الجمركية، لا يمكنها فعل شيء ذي بال إلا بموافقة أميركية ناجزة.

ومن هذه الزاوية بالذات يمكننا استيعاب الأثر الكبير للرئيس الأميركي المحتمل على السياسة الدولية، ولن نبتعد كثيراً لنرى كيف أن مرحلتي بوش الأب، وبوش الابن، كانت لهما نتائج وخيمة على المشهد الدولي، وفي المقابل كانت لمرحلة بيل كلنتون نتائج إيجابية على أميركا الداخل، والعالم الخارجي أيضاً، مما لسنا بصدد تفصيله هنا.

باراك أوباما هو الامتداد المنطقي لبيل كلينتون، بل إنه امتداد يتّسع لمشروع إصلاح أميركي داخلي، سيؤثر حتماً وإيجاباً على المستوى الدولي.

وفي المقابل، يأتي ميت رومني بوصفه النسخة الأقل بريقاً وجاذبية لمنطق اليمين الأميركي المُتعجرف، ذلك أن رومني النابع من طائفة خفائية مسيحية غامضة، يؤكد في سلوكه اليومي ذلك الانتماء المتعصب لأفكار هذه الطائفة (المورمون)، التي تستقي من اليهودية الصهيونية المنحرفة جُل مرئياتها التشريعية الدنيوية، وتتمسك بجبرية صراع الحضارات والأديان، وصولاً إلى جحيم "هرمجدون" التي سيـأتي بالخلاص!!..

كما أن المرشح رومني صادر عن ثقافة بورجوازية متغطرسة، دونها ملايينه المحسوبة منذ طفولته المخْمليَّة المبكرة، وكامل محطات الظفر المالي المُقطَّر بعرق الملايين من الكادحين الأميركان، وانخراطه الفعلي في التجارة والمال العابرين للقارات، بما يذكرنا ضمناً بعائلة بوش التجارية، ولكن بمسافات أبْعد وأجْلى..

وفي المقابل سنجد أن أوباما ابن الإفريقي الكيني الفقير، صادر عن ثقافة اجتماعية خُلاسية معجونة تاريخياً بالدماء والدموع، وهو بهذا المعنى يمثل الوجه المُكمِّل لبيل كلينتون الصادر عن ذات الثقافة الاجتماعية الخلاسية، رغم كونه أبيض اللون حتى مخ العظم.

فكلينتون الصغير والشاب، عاش في بيئة اجتماعية متواضعة، وانخرط في الثقافة الأميركية المُتباعدة عن أرستقراطية الأقحاح المأفونين بالمال الزائد، والعنصرية الاستيهامية.. ح

تى أنهم كانوا ينعتون بيل كلينتون بالزنجي الأبيض! وهكذا ينعتون الآن أوباما بوصفه جامع العرقين الأبيض والأسود، مُستكثرين عليه ذلك!

المعركة الانتخابية الأميركية الراهنة تمثل ذروة المجابهة المريرة بين رؤيتين ومنطقين في إدارة الولايات المتحدة.. رؤية ترى أن من الأهمية بمكان مراجعة الثوابت القاتلة للسياسة الأميركية المألوفة منذ الحرب العالمية الثانية، ويمثلها الديمقراطيون ومن يتحالف معهم..

ورؤية أخرى ترى في ثوابت تلك السياسة سبباً في التفوق الأميركي على مدى عقود طويلة من التربع على عرش القوة الكبرى التي لا نظير لها، وهذه الرؤية يمثلها الجمهوريون المُتشددون دوماً، والمنشدُّون في اتجاه اليمين الفاقع.

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كامل الخراب العالمي الذي نجم عن سياسات اليمين الجمهوري المؤدلج بالقوة والمال، سنجد أنه من الطبيعي أن يهتم العالم برمته بما يجري في هذا البلد، وتلك الإدارات المتعاقبة التي ملأت الدنيا ضجيجاً وصخباً، ولم تحرق الآخر الإنساني فحسب، بل أدخلت الولايات المتحدة في أزمة داخلية غير منكورة من الجميع.

بالأمس القريب كانت مناظرة أوباما ورومني، وبدا واضحاً أن الجمهوريين وجدوا ضالتهم في مرشح سافر الوضوح في نزعته اليمينية، وقادر على الحديث ببرودة الواثق الذي أُخرج للحياة لتوِّه من ثلاجة الموتى، المستعد جداً للجدل الكلامي الذي لا يغني عن الحقيقة..

بينما كان أوباما وكعادته حاضر البديهة، ممسكاً بجمرة الضنى الشديد، لكونه يمثل الديمقراطيين التوَّاقين إلى الخروج من عنق الزجاجة الضيِّقة لليمين الإمبريالي السافر..

لكن أوباما يواجه هذه المرة شراسة غير مسبوقة، بل تحدياً سافراً، ولا أود هنا الحديث مجدداً عن الطائفية المسيحية الضيقة لجماعة المورمون التي ينتمي إليها مرشح الجمهوريين، لكنني أزعم أن هذه الخلفية الدينية الطائفية الضيقة، تجعل رومني أقرب إلى الريغانية المتجددة القائلة بحتمية تبني برنامج حرب النجوم..

المقيمة في مزاعم القائلين بشرعية الحروب الدائمة، بل أهمية الإقرار بأن الحرب الهرمجدونية القادمة تعبير عن التمسك بإرادة الرب وقراره السابق على اختياراتنا! فتأملوا معي هذه الفادحة السياسية الأيديولوجية المرعبة..

في أُفق آخر، سنجد أن المرشحين الرئاسيين أوباما ورومني، ينتميان إلى بيئتين اجتماعيتين وحياتيتين متناقضتين جذرياً، فالأول مكافح شق طريقه بمشقة مرصودة في سيرته الذاتية، وتزوج من مكافحة نظيرة له، خارجة من معطف أُسرة زنجية فقيرة جداً.. وفي المقابل ولد رومني وفي فمه ملعقة من ذهب، بل إنه أنجز ملايين تجارته الأُولى وهو شاب فتي في مقتبل العمر، وما كان له أن ينجز ذلك لو أنه جاء من البيئة العامة للأميركيين البسطاء.

تذكرنا المعركة الرئاسية الأميركية اليوم، بتلك الرواية العقائدية اليسارية التي كتبها "جون شتاينبك" في ثلاثينات القرن المنصرم، عندما قرن عناقيد العنب بالغضب، وكان العنوان "عناقيد الغضب"، وفيها كشف شتاينبك ما حاق بالمواطن الأميركي، بعد أن دمَّرت البورصة المالية والتجارية المتفلتة آماله في حياة كريمة..

وما أشبه الليلة بالبارحة! تالياً واستتباعاً، تم طرد الملايين من بيئات عملهم وأرزاقهم، مقابل التلويح بجنة قادمة في مزارع العنب التي كان يملكها كبار الملاك الجشعين، وحالما وصلوا إلى مزارع العنب الممتدة على مدى البصر، وجدوا أنفسهم يعملون بنظام السخرة، وبما يسد رمقهم بالكاد.

تلك هي الحقيقة الأميركية التي استمرأت إعادة إنتاج رأسمالية القرن التاسع عشر المتوحشة، بنسخة جديدة يبدو في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، فاليمين القادم لا يعد الملايين بأكثر من عتبة جديدة من عتبات البؤس الشامل، ولا يعد العالم إلا بالمزيد من الحروب والخراب.

 

Email