بين التلميع والمسؤولية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كشف الربيع العربي عن حقيقة النظام الإعلامي العربي وعن الفجوة الكبيرة بين انشغالات الشارع والمدح والتسبيح والولاء غير المحدود للسلطة. والأغرب من هذا كله هو أن صحافة وصحافيي البلاط تحولوا بين عشية وضحاها من أبواق السلطة إلى منظري الثورة الجديدة وموجة التغيير والبيئة التي أفرزتها المعطيات الجديدة. حيث أننا نلاحظ هذه الأيام كل أنواع القذف والتجريح والشتم باسم حرية الصحافة في أشخاص ومؤسسات همهم الوحيد هو تصحيح الأوضاع والقطيعة مع العهد البائد.

تثار من حين لآخر حوارات ساخنة حول الصحافة و دورها في المجتمع و ما تستطيع أن تفعله من بناء وتوعية و مساهمة في التغيير. من جهة أخرى قد تكون الصحافة أو الإعلام بصفة عامة عالة على المجتمع تنتهج التلميع و التملق وأن تقدم للرأي العام كل شيء بخير و على خير ، و هذا النوع من الصحافة لا يغيّر الأمور ولا يساهم في صناعة الأحداث وعادة ما تنكشف أموره عندما تتأزم الأمور.

إعلام التلميع والتملق يكون همه الوحيد هو إرضاء المسؤول، وعادة ما يكون الصحافي عبارة عن سكرتير مؤسسة أو الكاتب الأول لوزارة أو جهة معينة. الضمير هنا غائب تماما و الرأي العام و القارئ لا يساوي شيئا بالنسبة للقائم بالاتصال والصالح العام. الصحافي في هذه المعادلة يقوم بعملية تزييف وتضليل وتشويه منتظمة وبطريقة عفوية مع مرور الزمن.

وهكذا يصبح الصحافي ومؤسسته الإعلامية بعيدين كل البعد عن خدمة المجتمع و كشف الحقيقة والمشاركة في صناعة القرارات والأحداث وتغيير الواقع. صحافة التلميع تفرز رأيا عاما مزيفا مضللا يؤمن دائما بثقافة "كل شيء بخير وعلى أحسن ما يرام".

وقد يفاجئ هذا الرأي العام نفسه في ظل هذه الصحافة من حين لآخر بالأزمات و بالواقع المر الذي يعيشه حيث التباين الكبير بين ما ينشر في الصحف، وما تبثه وسائل الإعلام و الواقع. و هنا يبدأ التمزق بين الرأي العام و الوسيلة الإعلامية حيث أنه آجلا أم عاجلا يكتشف الرأي العام أن ما يصله من رسائل إعلامية بعيد كل البعد عن الواقع.

صحافة التملق هي صحافة تغليط الرأي العام والتضليل و كل ما يتناقض مع أخلاقيات المهنة الشريفة والعمل النزيه، المهم هنا هو الحماس و الصراع وليس التحليل والمنطق، واحترام الرأي الآخر والنقاش السليم والبناء.

الصحافي الذي يبحث عن الإثارة والتمظهر هو الذي يطرح الأسئلة بدون الإجابة عنها لأن مهمته هي الإبهار ولفت الأنظار، و الإثارة ، هذا النوع من الصحافيين لا يحضّر و لا يجمع المعلومات و لا يوّثق عمله، ما يهمه هو جمع نقيضين لا يلتقيان لا في الطرح و لا في الرؤية و لا في أي شيء و إعطائهم الفرصة للشتم و السب أمام الملأ و على الهواء.

الغريب في الأمر أن بعض المؤسسات الإعلامية العربية تنسى أن تكنس و تنظف في فنائها و تطول لتتوجه بالنقد و الشتم و قلة الآداب إلى دول أخرى، و المنطق يقول ان المؤسسة الإعلامية التي تدعي الموضوعية و البحث عن الحقيقة و كشفها للرأي العام الأجدر أن تبدأ بالبلد الذي توجد فيه و في محيطها الحيوي. و كيف أتجرأ على فتح ملفات شائكة و ساخنة في دول أخرى و الأمور و القضايا يرثى لها في عقر داري و أسوأ بكثير مما هي علية عند الآخرين.

الإعلام الذي نحتاجه هو الإعلام الفعال الذي يخاطر و يغامر و يجازف من أجل إنصاف المسكين المهمش الضعيف المهضومة حقوقه، الإعلام الذي نريده يقف أمام تلك الفئات من التجار ومن السياسيين ومن الإداريين ومن المسؤولين.

الإعلام العربي في مرحلة ما بعد الثورات العربية بحاجة إلى صحافة فاعلة، ما زلنا في عهد صحافة التلميع والتسطيح و التهميش و التبسيط، أصبحت الصحافة القوية الفاعلة في عصرنا الراهن هي بارومتر الديمقراطية و التقدم و الازدهار و هي صانعة الرأي العام القوي و الفعال الذي يطيح بالمسؤولين و الحكومات و قادة الأحزاب، أصبحت سلطة رابعة تراقب السلطات الأخرى بما فيها الرجل الأول في البلاد و تحاصرها و تكشف تجاوزاتها للرأي العام. كيف لنا أن نحلم بهذه الصحافة و نحن لم نتخط بعد مرحلة الفصل بين السلطات.

 

Email